آراء وتحليلات
التظاهرات في لبنان بين العفوية والتسييس: المشهدية (3)
محمد محمود مرتضى
في هذه الورقة المكونة من أجزاء عدة سنحاول تجميع قدر مقبول ومعقول من الاشارات والعلامات التي تثبت أن ما يجري من حراك في الشارع اللبناني قد تجاوز حدود "العفوية"، ليدرج تحت عنوان: التوجيه والتحكم بالحراك. على أن كلامنا هذا لا يعني أن كل من نزل أو ينزل الى الساحات يعمل وفق أجندة أجنبية (أمريكية أو سعودية أو اماراتية)، وانما نقصد أن ثمة جهات خلف الستار تحرك الجموع بطريقة مباشرة للبعض، وغير مباشرة لآخرين، فيما المخلصون من المتظاهرين باتوا قلة خرجوا من دائرة القدرة على التأثير.
تشكل مشهدية الساحات العنصر الأهم في جميع الاحتجاجات، ومن دونها ستشعر وسائل الاعلام بنقص قاتل في تدوير الصورة وتوظيفها. ومن هنا فإن معظم "الشركات" التي تبيع خدماتها في "المقاومات اللاعنفية" ترتكز خدماتها على تقديم الافكار "الخلاّقة" التي تصلح للتغطية الاعلامية، وتصديرها.
وبعيدا عما تسرب عن نشاط شركة "اوتبور" صاحبة اليد الطولى في "صناعة الثورات"، فان التدقيق في تطور المشهدية في ساحات الاعتصام في لبنان لا يخلو من اشارة واضحة بل فاضحة، الى أن ما يجري في قسم كبير من الاحتجاجات (لتفادي التعميم) هو أبعد ما يكون عن التحرك العفوي.
وعلى أي حال فإننا يمكن أن نسجل الملاحظات التالية:
1- المنصات المتعددة: عند متابعة احتجاجات سابقة في لبنان وخارجه، كانت الظاهرة الاساسية هي وجود ساحة مركزية يتم التركيز عليها، وتكاد تنحصر الاحتجاجات فيها. (ميدان الاستقلال في العاصمة الاوكرانية كييف، وميدان التحرير في القاهرة)، وهذا ما حصل ايضا في لبنان عام 2005 بما عرف آنذاك بـ"ثورة السيادة والحرية والاستقلال".
الا أن ما يحصل في احتجاجات اليوم، هو الابتعاد عن مركزية الساحات الى استراتيجية الساحات المتعددة. عند التتبع يمكن بسهولة تقدير الاسباب التي دفعت المحركين لاعتماد التعدد بدل الوحدة، فالأعداد الكبيرة التي تواجدت في الايام الثلاثة الاولى تراجعت بشكل لافت، فيما التقديرات (باحتساب السعة اعتمادا على المساحة) تشير الى ان العدد الاكبر للمحتجين في ساحتي رياض الصلح والشهداء لا يتجاوز في حده الاقصى العشرة الاف متظاهر.
يبدو أن هذا الحضور الباهت دفع بالمحركين للانتقال الى تعدد الساحات. فاعتماد عدة منصات للتظاهر هو أفضل الخيارات الممكنة، مع قطع الطرقات، أمام مشكلة قلة العدد، حيث إن التجمع في مكان واحد كبير ومكشوف يظهر حجم الحشود، فيما الاكثار من المنصات يعطي فرصة للتلاعب بالأرقام، كما أنه يسمح لشاشات التلفزة بفتح نوافذ متعددة اثناء التغطية توحي بالكثرة، والشمولية.
2 - التأثير العاطفي: تشكل العواطف والقضايا الانسانية عنصراً هاماً في عمليات التأثير، وغالباً ما تتم هذه العمليات بواسطة العجزة والاطفال (وهم الاكثر تأثيراً) وفي حالات معينة بواسطة النساء.
تشير جميع الدراسات المتعلقة "بالثورات اللاعنفية" الى أن شركات "مقاولة الثورات" بالتعاون مع بعض جمعيات المجتمع المدني، تقوم بتدريب فريق عمل من اعمار مختلفة على كيفية "تسويق" المشاهد العاطفية.
يرتكز التأثير العاطفي على مشهديات تكاد تكون نمطية، وتحولت الى نوع من "الكليشيهات" الممجوجة والمعروفة، الا أن الاستمرار في اعتمادها يعود بشكل اساس الى أن الشارع، في الحالات العاطفة، يعيش حالة من "اغتراب الوعي" وغياب عنصر التفكير البناء والمنطقي. فالعاطفة، بشكل عام، أقوى من المنطق، وتزداد قوة العاطفة في الازمات ذات الطابع الانساني. وغالبا ما تُهرّب المطالب والمشاريع السياسية في أوج الحالات العاطفية.
بالإجمال، يعتمد التأثير العاطفي على مجموعة من الصور المشهدية التالية: بكاء اطفال، امهات يشكون من غياب الدواء لاطفالهن، رجال عجزة يشكون من مشاكل صحية أو تفرق العائلة، حالات اغماء لنساء وعجزة، بكاء ونحيب. ويتمثل دور الاعلام في أن شاشة التلفزة، ورغم اتساع البقعة الجغرافية مقارنة بمكان تواجد الكاميرا أو المراسل، وبقدرة قادر، غالبا ما تكون في مكان الحدث العاطفي للتغطية ونقل المشهد.
3- الوعي الشامل المصطنع: لا شك أن درجة الوعي تختلف بين فئات الشعب الواحد، ولأجل ذلك، فإن "الثورات" تحتاج الى قيادة تستطيع ايصال حراكها وثورتها الى بر الأمان. على أن هذا الاختلاف والتفاوت ينبغي أن يظهر على شاشات التلفزة أثناء تغطية الحراك، لا سيما عندما تزعم أو تتظاهر القنوات التلفزيونية أن تغطيتها للاحتجاجات تتم بشكل تلقائي وعفوي دون أية انتقائية. ربما يمكن القول إن هذا التفاوت ظهر جلياً في الايام الاولى للحراك في بيروت، حيث يمكن رصد الحجم الهائل في درجات الوعي من خلال استصراح المطالب، لكن سرعان ما اختفى هذا التفاوت، وتصدر المشهد مجموعة من الاشخاص الذين بدت عليهم علامات "التثقيف"، ومع ذلك يمكن بسهولة رصد أنه تثقيف مصطنع، هو اشبه بتصريح تم تلقينه للشخص. وللصدفة ايضاً، فإن الغالبية العظمى التي "تتصيدها" القنوات التلفزيونية هم من هذا الفئة حصراً، مع حالات قليلة جداً من "عامة الشعب" هي اشبه بلزوم المشهدية.
تختلف درجات التصريحات "التوعوية"، لكنها جميعها تركز على محورين أساسيين: تجاوز "الثورة" للاصطفاف المذهبي، ورفض تسييسها او ركوب موجتها من أي جهة كانت.
ففيما يتعلق بتجاوز الاصطفاف المذهبي، فالمجموعة التي تقف الى جانب المراسل وامام الكاميرا وتسعى للتصريح، غالبا ما تكون تعرف بعضها بعضًا، كما أن "محاسن الصدف" تفرض أن يكون هؤلاء الاشخاص يعرفون مذهب بعضهم البعض.
أما فيما يتعلق برفض التسييس، فمحاسن الصدف، تحضر فوراً، حيث يكون الرافض للتسييس حزبياً "سابقا" يمزق بطاقته الحزبية، أو تابعا لتيار يزعم أنه من "مجتمع مدني" من المعلوم أن رئيسه في السلطة، وفساده مشهور ومعروف، دون أن ننسى أن الذي يصرح، يذكرنا دائما، بجملة اعتراضية لا محل لها في التصريح، بأنه طالب جامعي. وبين تجاوز الاصطفاف المذهبي، ورفض التسييس، يقدم لنا الاعلام صورة "حضارية" عن احتجاجات يظهر من خلالها، أن "الشعب" اللبناني ببكرة ابيه، يملك درجات عالية من الوعي المنقطع النظير، لكنه في نفس الوقت، قد نراه ينزلق، بأية لحظة، الى فوضى وحرب أهلية دون أن يتعلم، من تاريخه البغيض، دروساً مما حصل في لبنان في فترة الحرب الاهلية، ودون أن ياخذ عبراً مما جرى في الاقليم، والتجربة السورية لا تزال ماثلة أمامه.
التظاهرات في لبنان بين العفوية والتسييس.. راقبوا الاعلام (1)
تظاهرات لبنان بين العفوية والتسييس: فن صياغة الشعارات (2)
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024