آراء وتحليلات
انتفاضة شعبية بنكهة أميركية
أحمد فؤاد
احتقان وشحن هائلان تموج بهما الساحة العراقية، من مظاهرات تخريبية إلى نخبة سياسية مأزومة، ثم عدو محتل لا يزال موجودًا على الأرض، يرسم ويخطط وتتولى أياديه الداخلية القذرة التنفيذ، فاندلعت الحرائق بامتداد المدن العراقية، وطالت فيما طالت مقار حكومية ومؤسسات، والأهم مقرات الحشد الشعبي، وصولًا إلى محاولات عديدة لاصطناع مواجهات بالسلاح بين الشعب العراقي والحشد.
وفي وسط نيران الصخب المرتفعة ودخان الضجيج الكثيف، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فجأة وبدون مقدمات، تصفية أحد أهم المطلوبين لدى واشنطن، أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم "داعش" الإرهابي، وجرى إخراج المشهد بسيناريو هوليوودي مثير، ليجذب انتباه العالم، ويأسر عقول من يتخذون مواقفهم بلا مهلة ترو أو تفكير.
قتل الأميركي صنيعته، بعد أن أدى دوره الكامل في تدمير بلدين عربيين، ودمغ الدين الإسلامي بالإرهاب في المخيلة الغربية. استنفد "البغدادي" مسببات الاستمرار، وصار عبئاً هائلًا، فلا تركيا ولا الخليج - وهي الدول التي دعمته - ستقبل باستضافته، ووجوده في إدلب السورية كان سيمنح الجيش العربي السوري نصرًا إضافيًا، مؤكداً وقريباً.
التوقيت والخبرة في التعامل مع الإعلانات الأميركية المثيرة لا توفر فرص اختيار من متعدد، فالسلاح الأميركي لا يتحرك سوى للمصلحة. واشنطن ليست جمعية خيرية تحارب الإرهاب أو تسعى في مصالح شعوب الشرق الأوسط، والهدف من وراء دخان العملية بالتأكيد أعمق من شطب تنظيم إرهابي انتهى عمليًا دوره، وبات من مخلفات الماضي، وسواء قتل البغدادي أو لا يزال حيًا، فقد تحول إلى لعبة لا تخيف أحدًا. الحقيقة الوحيدة في القصة الأميركية إنها لعبة جديدة لزيادة النيران بالعراق، إلى جانب حفنة أهداف دعائية، توقف النزيف للولايات المتحدة بالشرق الأوسط.
العراق وإشعاله هو الهدف الأهم لأميركا والكيان الصهيوني، وخلال الأشهر الماضية، جرب الكيان شن الغارات على مقرات الحشد الشعبي، سعيًا وراء لجم نموه، وإبعاده عن الحدود العراقية السورية، إلا أن الرد كان فتح معبر البوكمال الحدودي، وهذا الحدث له ما بعده، إذ يعني تدشين طريق مفتوحة بين بغداد ودمشق ضربة غير مسبوقة للكيان الصهيوني، فالطريق يصل بين اثنتين من أهم العواصم العربية، ووراءهما يمتد إلى طهران، ومن الجانب السوري هو واصل إلى بيروت، ما يعني تحقيق التواصل البري بين محور المقاومة، إضافة إلى الثقل العراقي الهائل، والخبرات المتراكمة لدى قوات الحشد.
تريد الولايات المتحدة ببساطة ووضوح نزع السبب الرئيس لنشأة قوات الحشد الشعبي، بقتل عميلها السابق "البغدادي"، بعد أن وظفته ودعمته طوال السنوات الماضية.
خطوات تحجيم أو "فرملة" الحشد الشعبي بدأت حين تدخلت واشنطن في قرار نقل الفريق عبد الوهاب الساعدي قائد قوات مكافحة الإرهاب، وهي القوات التي لعبت دورًا حيويًا بجانب الحشد الشعبي في تطهير العراق من "داعش"، في إهانة واضحة للرجل وشطب لدوره الوطني.
بعدها بدأ الحريق العراقي، كما بدأت ثورات الربيع العربي - أو العبري إن شئنا الدقة - من الأسباب ذاتها، الفقر والجوع والفساد، في بلد غني بموارده الطبيعية، من بترول وغاز، ثم من أراض زراعية واسعة، توفر ما يتعذر عند جاراته الخليجيات، أي الأمن الغذائي، ورغم ذلك فإن الأوضاع المعيشية بالعراق مأساوية، وفشلت الحكومات التي أعقبت الاحتلال الأميركي في كل مرة حاولت تصويب المسيرة الاقتصادية أو الاجتماعية بالبلد.
جاءت الانتفاضة الشعبية العفوية كأصوات رجع الصدى المكتومة والمضغوطة، بحيث يصعب أو يساء تفسيرها، في الوقت المناسب، ولم تجد من استجابة فورية سوى من عملاء ومتدربي الـ "C.I.A"، ممن أجادوا ركوب الهبات العفوية، واستغلالها، لتحقيق مصالح المشغل الأميركي، بحيث تصبح الصرخات كالخناجر تمزق قلوب الأوطان.
تحركت المجموعات المنقادة، بلا وعي، خلف قادة المظاهرات، إلى إحراق مقار الحشد وصولًا لاستهداف مبان دبلوماسية تابعة للجمهورية الإسلامية، وغضوا البصر عن قوات الاحتلال الأميركي، التي لا تزال ترابط في العراق، وابتعدوا عن النخبة السياسية التي تعمل بأوامر واشنطن، ونسي المواطن بسرعة ظروف وحقيقة نشأة قوات الحشد من المقاومة العراقية الباسلة، الخارجة من رحم وطن ممزق، ورغم ذلك نجحت في جعل الاستمرار العسكري الأميركي من المستحيلات، ثم نسفت وجود تنظيم "داعش" من العراق، بكثير من الدماء الزكية.
الانتفاضة يمكن رد كل أسبابها إلى الاحتلال الأميركي للعراق، ومن قبله الحصار الأميركي العالمي، الذي استمر 13 عامًا، وانتهى عملياً بسقوط بغداد في 2003، وعانى فيه العراق من عزلة شديدة من أغلب دول العالم، وتحول بعدها إلى أكثر دول المنطقة تخلفًا، مع التدمير الممنهج للبنية التحتية، من مصانع ومصافٍ ومحطات توليد ومحطات المياه والصرف الصحي، والتي عاد بها العراق إلى حقبة "ما قبل الصناعة"، كما قال جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي، وقتذاك.
وبعد الاحتلال سعت الولايات المتحدة إلى زرع الفساد والطائفية، مستغلة ميراث سنوات صدام السوداء، إلى أن نضجت الثمرة، وجرى دعم "داعش" بالآليات والسلاح والمال، لاكتساح ثلث مساحة العراق، الذي يراد له على الدوام أن يبقى ضعيفًا مهلهلًا، لا يمثل دعمًا أو ظهيرًا للجبهة الشرقية العربية أمام الكيان الصهيوني، وهي الخطة ذاتها تتجدد، والهدف الأميركي الثمين يستحق المغامرة.
الغريب أن من يقود ويحرك التظاهرات نسي - أو تناسى - أن الوضع الاقتصادي الخانق هو نتيجة للفعل الأميركي، ولحكومات "بريمر" ودستوره والطبقة السياسية التي صعّدها لتتولى مقاليد السلطة، ولهيئات سيطرة مالية عالمية تفرض رؤيتها الاقتصادية فرضًا على العراق، وصولًا إلى وجود بعثة تتبع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي "يونامي"، ومن ضمن صلاحياتها الإصلاح المالي والاقتصادي! وبالطبع فإن النتيجة الوحيدة المتحققة كانت مزيدًا من الإفقار والضغوط المعيشية.
منذ نصف قرن ونيف، قال الزعيم الصيني الكبير ماو تسي تونج: "احملوا السلاح ذودًا عن أوطانكم، وفي الوقت ذاته، تأملوا ما وراء حدود الأوطان وافهموه"، وربما هي الرسالة الوحيدة التي يتعين على المتظاهرين قراءتها بتعقل وفهم شديدين، قبل أن يصبحوا مطية لتحقيق أهداف عدوهم وعدونا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
12/11/2024
حسابات حقول العدوان وبيادر الميدان
11/11/2024