معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

العراق.. مساران لاحتواء الأزمة
26/10/2019

العراق.. مساران لاحتواء الأزمة

عادل الجبوري

   خلال الاعوام السبعة المنصرمة، شهدت العاصمة العراقية بغداد ومدن اخرى، مثل البصرة وميسان وذي قار وغيرها، تظاهرات جماهيرية احتجاجية، على البطالة وسوء الخدمات والفساد  وغياب القانون.

   وكأي فعاليات جماهيرية، من هذا القبيل، وفي اية دولة، لم تخل تظاهرات العراق التي جرت في صيف عام 2012، وفي صيف 2015، وفي عام 2018، واخرها خلال الشهر الجاري، من اعمال عنف وتخريب وتدمير واعتداء على الممتلكات العامة والخاصة.   

   وما يعيشه الشارع العراقي هذه الايام، لا يختلف من  حيث الجوهر والمضمون، وعموم المطالب والشعارات والممارسات، سواء كانت افعالًا او ردود افعال، عما جرى في اعوام سابقة.

   لا يستطيع اي كان ان يشكك في مشروعية وواقعية مطالب الجماهير العراقية، لانها تمثل القدر المعقول من الطموحات والتطلعات، والسقف الواقعي للاحتياجات الحياتية اليومية، أو بتعبير أدق، الحد الطبيعي والمقبول للحقوق التي يفترض أن يتمتع بها المواطن في اي دولة كان، والتي تعد من الواجبات الاساسية التي تقع على عاتق السلطة الحاكمة. وما هو معروف ان التظاهرات والاحتجاجات السلمية، تمثل أحد أبرز وسائل وأدوات الضغط على الحكومات، لمعالجة المشاكل والأزمات القائمة، والاستجابة للمطالب المشروعة، وتخفيف الاحتقانات، وتصحيح المسارات الخاطئة.

   بيد أن الخطر الحقيقي، يكمن في التوسل بالوسائل والأساليب العنفية، واللجوء الى الفوضى، والعمل على تخريب، أو سلب ونهب الممتلكات العامة وحتى الخاصة في بعض الاحيان، وتعريض حياة الناس للخطر، تحت ذريعة شعارات الاصلاح والتصحيح والتغيير.

   وفي أغلب الأحيان، تبرز قلة قليلة، تعمل بشكل يتقاطع مع التوجهات والسياقات السلمية، وتسعى الى خلط الاوراق، وتأزيم الامور، وهو ما يفضي الى انحراف التظاهرات والمسيرات التي يراد لها ان تكون سلمية وبمطالب واضحة ومحددة، لتتحول الى فوضى عارمة يطغى عليها القتل والتدمير والتخريب العشوائي والممنهج.

   ولعل المرجعية الدينية في النجف الاشرف، نبهت من خلال منبر صلاة الجمعة الاخيرة، الى ضرورة الالتزام بسلمية المظاهرات وتجنب الانسياق والاندفاع نحو الفوضى والتعدي على النظام والقانون، واللجوء الى استخدام العنف وأعمال الشغب والتخريب، مؤكدة "ان الاصلاح الحقيقي والتغيير المنشود في ادارة العراق ينبغي أن يتم بالطرق السلمية، وهو ممكن اذا تكاتف العراقيون ورصّوا صفوفهم".

   منطقيا، من لديه مطالب مشروعة، وفي ذات الوقت يمتلك الحرص والشعور بالمسؤولية حيال أرواح الناس ومصالحهم، والممتلكات العامة، لا يمكن أن ينساق الى حمى الفوضى، والتجاوز على الحرمات، وانتهاك القوانين، لأن ذلك لا ينسجم مع جوهر المطالب، ويتنافى مع منهجية الالتزام بالقانون والتقيد بالنظام.  

   ولا شك أن الانتقادات الحادة واللاذعة التي وردت على ألسنة عدد غير قليل من المتظاهرين، ازاء ما حصل من تعدّ على مؤسسات الدولة، ومنشآت اقتصادية وتجارية، في عدد من المحافظات، خلال تظاهرات الأول من تشرين الاول - اكتوبر الجاري، وكذلك خلال تظاهرات الخامس والعشرين من نفس الشهر، تمثل  مؤشرًا واضحًا على أن نزعة التخريب والتدمير، ليست هي السلوك والتوجه العام لدى عموم المتظاهرين، وانما هي في جانب منها تعد استثناء حكمته ظروف وعوامل مختلفة، وحركته أجندات خارجية بأدوات داخلية.

   قد تكون انفعالات البعض وطبيعة الضغوطات الحياتية والنفسية التي يعانيها، أحد العوامل وراء جزء من الفوضى التي رافقت التظاهرات، وهذا امر طبيعي جدا، وان كان غير صحيح ولا مبرر، ارتباطا بنتائجه وآثاره السلبية.      

  بيد أن ما هو أخطر، آنيًا ومستقبليًا، الأجندات والمخططات الخارجية، التي يبحث أصحابها عن ظروف وأرضيات ومناخات ملائمة لتمريرها وتسويقها بطريقة هادئة وبأقل قدر من التكاليف، ليحققوا مخططاتهم واهدافهم .

   والظروف والارضيات والمناخات الملائمة، تتمثل في جانب منها بالاداء الحكومي غير المرضي طوال الستة عشر عاما المنصرمة، وعدم الالتفات الى المشاكل والازمات الحياتية لابناء المجتمع، والتوجه الجاد لحلها ومعالجتها، وكذلك اتساع رقعة مظاهر الصراع والتنافس السياسي الحزبي البعيد الى حد كبير عن هموم الناس ومشاكلهم واحتياجاتهم، ناهيك عن استشراء الفساد الاداري والمالي في مجمل مفاصل الدولة، لا سيما العليا والحساسة منها.

   وقد اشارت المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف في خطبتها الاخيرة، وقبلها في بيان مفصل، الى كل ذلك، ووضعت خارطة طريق واقعية وعملية للخروج من المأزق، وكذلك فإن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ورئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وزعامات سياسية أخرى، شخصوا مكامن الخلل، وحذروا من خطر اتساع دائرة العنف، في ذات الوقت الذي اشاروا فيه الى الخطوات المطلوبة، والتي سيصار الى اتخاذها على مراحل مختلفة من اجل احتواء الازمة وتطويقها، علما ان المواطن العادي، لم يعد ينتظر من يشخص له حقيقة الازمة وجوهرها، لان ذلك بات واضحا بما فيه الكفاية، بقدر ما يبحث عمن يسير في طريق حل ومعالجة الازمة.    

   ومن يتأمل بدقة في واقع التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية الاخيرة، ويقرأ ما بين السطور، يلمس ويكتشف انه الى جانب النوايا الصادقة والحسنة، والتوجهات السليمة لاصلاح وتصحيح الاوضاع السلبية الخاطئة، هناك نوايا ومشاريع سيئة وخطيرة للغاية للدفع بالامور نحو الهاوية، ولعل بعض الشعارات التي رفعت، والممارسات التي ارتكبت، وخطابات التحريض والتأزيم التي روجت، تؤكد ذلك، في الوقت الذي اشارت فيه الى ان هناك جهات خارجية وداخلية، لا تريد للعراق ان ينعم بالهدوء والامن والاستقرار.

   لا نحتاج الى الكثير من الوقت والجهد، لنستنتج أن النزوع نحو العنف والفوضى والتجاوز على النظام وانتهاك القانون، لا يصب باتجاه تلبية مطالب واحتياجات المتظاهرين المشروعة، ولا يفضي الى رفع الحيف والظلم عن فئات وشرائح اجتماعية واسعة، لم تحظَ بالقدر الكافي من الرعاية والاهتمام المطلوبين.

   واذا لم تكن أجواء كل تلك الفوضى تصب في مصلحة المظلومين والمهمشين، سواء الذين اشتركوا في التظاهرات أم ممن لم يشتركوا، فإنها بلا ادنى شك، تنتهي وتؤول الى تحقيق أهداف أصحاب الاجندات والمخططات الخارجية التخريبية، ويكفينا هنا ان نتابع وندقق فيما تتحدث به، وكيف تتحدث به الواجهات السياسية والاعلامية لاصحاب الاجندات والمخططات الخارجية، لنكتشف ونحدد مساحات التناغم والانسجام الهائلة بين ما تقوله وتتمناه، وجانب مما يحدث على ارض الواقع.

   ولا يختلف اثنان أن أفضل بيئة يمكن أن يتحرك فيها الاعداء والخصوم، داخليين كانوا أم خارجيين، هي تلك التي تستفحل فيها الصراعات والخلافات السياسية، ويتفشى فيها الفقر والحرمان والاهمال، وتغيب عنها هيبة الدولة ومكانتها.

   وبمقدار ما ينبغي مراعاة حقوق الانسان وضمان حماية المتظاهرين السلميين وعدم تعريض حياتهم للخطر، والحفاظ على مؤسسات ودوائر الدولة والممتلكات العامة والخاصة، والمؤسسات الحزبية والاعلامية، فإنه لا بد من فرز المخربين والمندسين وتشخيصهم وملاحقتهم، ومعرفة  الجهات التي تقف وراءهم وتدعمهم وتمولهم وتشجعهم، وانزال اقصى واقسى العقوبات بهم، لانه بدون ذلك ستتواصل وتتوسع مظاهر الفوضى والاضطراب والتخريب والانفلات.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات