آراء وتحليلات
لماذا رفضت بغداد "نبع السلام" التركية؟
عادل الجبوري
اظهر مقطع فيديو، قبل ايام قلائل، مجموعة شبان من مدينة اربيل الكردية العراقية، يرمون الحجارة ويوجهون السباب والشتائم على رتل من القوات الاميركية قادم من سوريا.
وسواء كان ذلك المشهد يعبر عن حالة رفض لدخول قوات أجنبية أميركية الى البلاد، أو يعكس غضبًا واستياءً من الموقف الاميركي الصامت حيال ما يتعرض له اكراد سوريا من عدوان عسكري تركي مرفوض ومدان دوليا واقليميا، فإنه في كل الاحوال يؤشر الى حقيقة المواقف الشعبية العامة من السياسات والمواقف والتوجهات الاميركية الخاطئة، التي تنطوي على قدر كبير من النفاق والازدواجية والتنصل من المسؤوليات التي يتحتم على واشنطن الاضطلاع بها باعتبارها قوة عالمية عظمى، تتشدق على الدوام بالدفاع عن قضايا الشعوب العادلة وحقوق الانسان.
وبما أن أي خطأ لا بد أن يفضي الى خطأ أو أخطاء أخرى، فإنه من الطبيعي جدًا والمتوقع أن تكون للعدوان التركي على سوريا تبعات واثار وسلبية تتجاوز نطاق المساحة الجغرافية التي تجري فيها العمليات العسكرية، لتمتد الى مساحات أخرى، بعضها في العمق العراقي. وما دخول مزيد من القوات الاميركية الى العراق من جهة سوريا، عبر محافظتي دهوك والانبار، الا واحدة من تلك التبعات والآثار السلبية.
العدوان العسكري التركي، في الوقت الذي يمثل فيه انتهاكًا واضحًا وصريحًا لسيادة دولة عضو في الامم المتحدة، وبالتالي يعد انتهاكًا صارخًا للمواثيق الدولية، فإنه ينطوي على توجه خطير يتقاطع بالكامل مع المساعي والتوجهات الرامية الى احتواء وتطويق أزمات المنطقة، والبحث عن أجواء ومناخات ملائمة للتوصل الى حلول سلمية بأقل قدر من الخسائر والاستحقاقات.
فضلا عن ذلك، فإن مجمل الحقائق والمعطيات، تذهب الى أن عدوان "نبع السلام" العسكري في شرق الفرات السوري، تسبب باطلاق سراح عشرات أو مئات الارهابيين الدواعش، وهو ما يعني امكانية اعادة احياء الخطر الداعشي في المنطقة، بعد تراجعه وانحساره، بفعل الهزائم الكبيرة التي لحقت بذلك التنظيم الارهابي في كل من العراق وسوريا.
ولعل ردود الأفعال الدولية المختلفة - لا سيما الاوربية - حيال العملية العسكرية التركية، عكست قلقًا كبيرًا جدًا من "داعش"، خصوصًا وان اعدادًا لا يستهان بها من عناصر ذلك التنظيم تحمل جنسيات دول أوروبية غربية، ولا يمكن لتلك الدول التنصل من مسؤولياتها في التعاطي معهم بطريقة ما.
وطبيعي أن يكون القلق العراقي أكبر، نظرًا للتجربة المؤلمة والمأساوية التي عاشها العراقيون جراء اجتياح "داعش" لعدة مدن ومناطق في صيف عام 2014.
ويمتزج القلق العراقي بغضب ورفض لتوجه واشنطن الى تعزيز وجودها العسكري في البلاد، في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات وتتسع الدعوات لانهاء الوجود الاجنبي بكل مظاهره واشكاله.
فعودة الدواعش من سوريا الى العراق، بفعل الاجتياح العسكري التركي، ومعهم عودة مئات الجنود الاميركيين، لا يمكن الا أن يزيد الاوضاع تأزمًا وتفاقمًا وانزلاقًا نحو الفوضى والاضطراب.
ويبدو ان كلا من انقرة وواشنطن، أدركتا سريعًا طبيعة المأزق الذي وقعتا فيه، فأنقرة لم تكن تتوقع ان تجابه بعاصفة رفض وامتعاض دولي واسع لخطوتها المتهورة، ناهيك عن فشلها المبكر في حصد النتائج المرجوة من عملية "نبع السلام"، وعدم قدرتها على انهائها بالطريقة التي تريدها، لذلك وجدناها تفتح أبواب الحوار والتفاوض مع واشنطن أولا، رغم الملاسنات الكلامية الحادة والمبتذلة بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ونظيره الاميركي دونالد ترامب، ومن ثم مع موسكو، لأن الأخيرة تمثل رقمًا قويًا وصعبًا، ولا بد من التعاطي والتعامل معها من اجل حفظ التوازنات وتطويق الخسائر والتبعات. ولعل لقاءات اردوغان مع نائب الرئيس الاميركي مايك بينس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ومن ثم لقاؤه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عبرت عن طبيعة تعقيدات المشهد، وحجم الازمة التي اقحمت انقرة نفسها فيها.
في مقابل ذلك، فإن واشنطن، التي تخلت عن حلفائها الاكراد في سوريا، كما هي عادتها دوما، حاولت الايحاء بأنها ستتخذ اجراءات صارمة، لارغام انقرة على التراجع، بيد انها في النهاية، تجنبت التصعيد مع اردوغان، بل وأكثر من ذلك قامت بخطوات لتهدئته واستمالته، وقد بدا ذلك واضحا من خلال زيارة بينس وبومبيو الى انقرة، وخروجهما بما يمكن ان نسميه باتفاق "حفظ ماء الوجه" لكلا الطرفين.
ولا شك أن دخول موسكو القوي على خط الازمة، من شأنه أن يساهم في كبح جماح التهور التركي، وتحجيم الدور والتأثير الاميركي، وهو ما ينبغي لأصحاب القرار السياسي في بغداد استثماره بشكل جيد، للتقليل من الاثار والانعكاسات السلبية لما يجري شرق الفرات على المشهد العراقي.
وما يفترض القيام به، والتركيز عليه من قبل بغداد، هو اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر لمنع عودة الدواعش، والاسراع بتنفيذ القصاص العادل بالمعتقلين منهم، وتشريع قانون انهاء التواجد الاجنبي من قبل البرلمان، وتعزيز وتفعيل التنسيق الامني والاستخباراتي مع كل من روسيا وسوريا وايران في اطار غرفة عمليات التنسيق الاستخباراتي، الى جانب الاهتمام باجراء اصلاحات داخلية حقيقية، تساهم في تخفيف حدة الاحتقانات الاجتماعية، وقطع الطريق على الاجندات والمشاريع التخريبية الخارجية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024