معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

الصراع على الطاقة في شرقي المتوسط
19/10/2019

الصراع على الطاقة في شرقي المتوسط

سركيس أبوزيد
 تأتي أھمية شرق البحر المتوسط أنه على تقاطع طرق بين ثلاث قارات: أوروبا آسيا وأفريقيا. وبسبب أھميته الاستراتيجية كان دوما مسرحا للنزاعات الإقليمية. ومع إزدياد أنشطة الحفر والتنقيب واكتشاف حقول الغاز البحرية الواعدة التي جذبت إھتمام الحكومات والشركات الكبرى، تحوّل شرقي المتوسط الى ساحة صراع للسيطرة على منابع ومصادر الطاقة فيه بين ثلاث قوى رئيسية ھي تركيا و"إسرائيل" ومصر. أما نقطة الإرتكاز فھي قبرص التي تقع في قلب الجغرافيا السيايسة للغاز في المنطقة.

فما زالت تركيا تمضي قدما في خطوات التصعيد في شرق البحر المتوسط، رغم التحذيرات الدولية والإقليمية لھا من التنقيب عن الغاز والنفط قبالة سواحل قبرص، ما قد يرفع من حدة التوتر بين تركيا وقبرص والاتحاد الأوروبي ودول إقليمية  وأخرى لھا شركات تعمل في المنطقة.

و"تحرشات" تركيا بمكامن الطاقة ليست جديدة، وإن كانت ھذه المرة أكثر إثارة للقلق الدولي والإقليمي. فأنقرة تتحرك مدفوعة بذريعة أساسية، تتمثل في ما تقول أنه موافقة من قبرص الشمالية على التنقيب قبالة سواحلھا. لكن إلى جانب ذلك، فإن بُعدا مھما يتمثل بأقصى نقاط الضعف لدى أنقرة والمتعلقة بتوافر الطاقة، إذ تستورد نحو 60% من الغاز المستھلك لديھا من روسيا، ومن المرجح أن تكون الإكتشافات الھائلة في المتوسط، والتي بدأت في الظھور تباعا منذ عام 2009 ، مطمعا كبيرا لھا.

ذريعة أخرى، تلجأ لھا أنقرة في خضم الأزمة، وھي أنھا لا تعترف بقانونية إتفاقية وقعتھا مصر وقبرص عام 2013 لتقسيم مكامن التنقيب عن الغاز في المتوسط.  لكن القاھرة شددت حينذاك على أن الإتفاقية لا يمكن لأي طرف أن ينازع في قانونيتھا، وأنھا تتسق وقواعد القانون الدولي. وتحاول تركيا قطع الطريق على مصر كي لا تكون مركزا إقليميا للغاز، خصوصا بعدما كشفت شركات طاقة أميركية وعالمية كبرى عن مشاريع للعمل في مصر التي تستعد لتكون مركزا ھاما للطاقة في المنطقة، نظرا لموقعھا الاستراتيجي في الإمساك بمفاتيح مستقبل غاز المتوسط، بما يؤھلھا للعب دور ھام في تدفق تجارة الطاقة العالمية.

وفي ظل رھان الولايات المتحدة على أھمية مستقبل ھذا القطاع وعلى الخارطة السياسية الجديدة للتحالفات في المنطقة، فإن دخول مصر على خط تسويق الغاز، يشكل عاملا داعما في مواجھة العلاقات المتوترة مع تركيا، التي تم استبعادھا عمليا من منتدى الغاز، ويقلل من اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الطبيعي الروسي. وتعمل واشنطن على إخراج أوروبا من الاعتماد على موارد الطاقة الروسية وبناء سوق طاقة متكامل لتحفيز التعاون الإقليمي وتعزيز أمن الطاقة. وتوضح الخريطة إكتشافات النفط والغاز قبالة سواحل قبرص ومصر و"إسرائيل" ولبنان على مدار العقد الماضي، وترسم بينھا مسارات محتملة للتصدير يمكن أن تسھّل في النھاية بيع الغاز الإقليمي إلى الاتحاد الأوروبي.

وفيما ترفض إدارة ترامب التأكيد ما إذا كان التعاون الإقليمي في مجال الطاقة سمة من سمات خطة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، شكل منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط للغاز، ومقره القاھرة ، ويضم إضافة الى مصر، "إسرائيل" واليونان وقبرص والأردن وفلسطين وإيطاليا، المجال الوحيد الذي جمع "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية حول اتفاقات التعاون المشترك في السنوات الأخيرة مع اكتشافات الغاز على شواطئ غزة. ومع جھود إدارة ترامب لتشكيل "تحالف استراتيجي في الشرق الأوسط" (MESA) لمواجھة الإيرانيين، يلجأ مسؤولو الأمن القومي إلى منتدى الغاز كأداة استراتيجية أساسية لتعزيز المصالح الأميركية في المنطقة.

أما على الجانب اللبناني، فقد زار مؤخراً في 12 أيلول/ سبتمبر الماضي الوسيط الأميركي الجديد دايفيد شينكر المكلف متابعة المفاوضات المتعلقة بترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان و"إسرائيل". خصوصا أن أميركا تبدي إھتماما جديا وكبيرا في ھذا الملف ويھمھا الإنتھاء من عملية ترسيم الحدود. فمسألة ترسيم الحدود بين لبنان و"إسرائيل" التي توقفت بسبب انتخابات إسرائيل والمرحلة الإنتقالية فيھا، سوف تُستأنف بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة والإنطلاقة الفعلية للمھمة المسندة الى مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر. من جھة لبنان، القرار السياسي مُتخذ بشأن ھذه المفاوضات التي ستكون تقنية وإدارية من دون الجنوح الى مفاوضات سياسية واتفاق شامل.

عمليا، سيبدأ الحفر الإستكشافي قبالة منطقة الصفرا منتصف شھر كانون الأول/ ديسمبر المقبل، على أن يُستتبع بأعمال مماثلة في البلوك رقم 9 الجنوبي منتصف العام المقبل. وفي ھذه الأثناء  بدأت شركة "توتال" تحضير عقود الخدمات البترولية بعدما تم توقيع عقد مع شركة حفر أميركية تمھيدا لبدء أعمال الحفر الإستكشافية. ھكذا، تدل روزنامة "النشاط البترولي" على أن أعمال الإستخراج قد تبدأ في العام 2022 أو 2023 إذا تأكدت الشركة العاملة من وجود كميات كافية تغطي تكاليف الحفر وتؤمّن الأرباح المرجوة، وإذا تم إعتماد الخط السريع للإستخراج. بالنتيجة، سيترك الإعلان الرسمي لبدء حفر أول بئر إستكشافي، المرتقب قريبا جدا، أثرا طيبا لدى المجتمع الدولي كونه قد يدخل لبنان رسميا النادي النفطي، ويشجّع الإستثمارات للعودة إلى لبنان من باب الخدمات التي يحتاجھا ھذا القطاع الحيوي. فقد بات ملف النفط والغاز، كما يقول الخبراء، الممر الاقتصادي والنقدي الذي يُبنى عليه مستقبل لبنان وثروة أجياله. وعلى لبنان أن يثبت حقه في الإستفادة من مصادر طاقته وإنقاذ اقتصاده ومواطنيه.

وبحسب محللين في بيروت، ليس فقط أن شينكر حل مكان ديفيد ساترفيلد، بل إظھار واشنطن اھتمامھا الفائق بالغاز الذي جرى إكتشافه في البحر ما بين اليونان وقبرص ولبنان و"اسرائيل". ولا شك في أن روسيا ليست مرتاحة الى الإندفاعة الأميركية بُغية السيطرة على الغاز البحري، والأھم أن الصراع لا يزال على أشدّه بين واشنطن وطھران. ويتردد أن الھجوم الذي طال منشآت "أرامكو"، حمل في طيّاته رسالة إنذار لـ"إسرائيل". فالعملية التي حصلت، إنتزعت إعجاب المحللين العسكريين الأميركيين، كما الإسرائيليين:

ـ أولا، لناحية المسار الطويل.

ـ ثانيا، لقدرة إختراق الدفاعات السعودية المتطورة بما في ذلك نظام "باتريوت".

ـ ثالثا، لدقة انتقاء الأھداف وتدميرھا، والأھم أن واشنطن كما تل أبيب، قرأت في ذلك رسالة إيرانية حول قدرتھا الصاروخية والاستخباراتية، وأن ما حصل مع "أرامكو" قابل للحصول مرة ثانية.

باختصار، رھان إدارة ترامب على محاولة ربط الأطراف المتنافسة من خلال شبكة طاقة، واستخدام ھذا التحالف العملي لإثراء المنطقة وتنويع الواردات الأوروبية وإضعاف موسكو، تشكل أولى الإشارات عن العقيدة الاستراتيجية التي لم تكشف عنھا بعد إدارة ترامب تجاه المنطقة.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل