آراء وتحليلات
العقوبات الأمريكية على لبنان: خطوة في الفراغ
محمد أ. الحسيني
استنفرت الإدارة الأمريكية كل أسلحتها وجنّدت كامل نفوذها الدولي والمحلي. ومنذ أن بدأ الكونغرس يقرّ على مدى السنوات الماضية قوانين عقابية ذات طابع دولي بذريعة تجفيف الدعم المالي لحزب الله، وهي تواصل ممارسة ضغوطها في مختلف المجالات من أجل إسقاط لبنان سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، اعتقادًا منها أن هذا الأمر سيدفع بالساحة الداخلية اللبنانية باتجاه تكوين حالة ضاغطة على حزب الله وتحميله مسؤولية التداعيات السلبية على الاستثمارات الخارجية وضرب عجلة الاقتصاد الداخلي، فضلاً عن التداعيات المباشرة وغير المباشرة على القطاع المصرفي، وبالتالي على الحالة المعيشية العامة في لبنان.
لبنان امتثل للشروط الأمريكية
وامتثالاً للقرارات الأمريكية اتخذ مجلس النواب سلسلة قوانين مالية تتوافق مع المعايير الدولية بشأن التحويلات النقدية الخارجية والتعاملات الداخلية، ولعب المصرف المركزي دورًا رئيسيًا في ضبط ومراقبة تطبيق هذه السياسات بشكل كامل وصارم، وباتت كل التعاملات المالية اللبنانية بمصارفها واستثماراتها وتحويلاتها بالأسماء والأرقام تحت أعين ومراقبة الأمريكيين. ولكن ذلك لم يكن كافيًا فاندفعت واشنطن إلى المزيد من القرارات العقابية. وبعد أن كان البنك اللبناني - الكندي باكورة الضحايا عام 2011، جاء دور بنك "جمّال ترست" مؤخرًا، وشملت العقوبات الأمريكية نوابًا ووزراء لحزب الله في خطوة شكّلت إهانة مباشرة لكل لبنان بمكوّناته السياسية الرسمية والعامة، فضلًا عن الزيارات المكوكية التي لمّا تهدأ لمسؤولين أمريكيين وآخرين أوروبيين إلى بيروت، في ظل تهديد أمريكي وقح بأن تطال هذه القرارات كيانات وشخصيات مقرّبة من حزب الله.
العقوبات خطوة في الفراغ
كانت الإدارة الأمريكية تعلم تمامًا أن قراراتها بحق المصارف اللبنانية ستؤتي أُكُلها، مطمئنة إلى استجابتها السريعة للشروط مهما كانت قاسية نظرًا للارتباط العضوي لهذه المصارف بالحركة المالية والمصرفية في الولايات المتحدة، فإن حوالي 65% من الودائع في لبنان محرّرة بالدولار الأمريكي، ونحو 72% من القروض مقوّمة أيضاً بالدولار الأمريكي. ولكن هذه الإجراءات، بحسب خبراء اقتصاديين وآخرين مصرفيين، هي بمثابة خطوة في الفراغ فهي لم تؤدِّ إلى أي تأثير على حزب الله الذي لا يتعامل بالدولار أصلاً وليس لديه أصول أو اعتمادات مالية في أي من البنوك اللبنانية وغير اللبنانية، وفي هذا السياق نقلت صحيفة "فايننشال تايمز" عن عدد كبير من المسؤولين الغربيين والمحللين الإقليميين تشكيكهم بالمزاعم الأمريكية التي قالت إن العقوبات أثّرت بشكل كبير على حزب الله، "خصوصاً أن الدعم المالي للحزب لا يمر عبر القنوات الرسمية ويصعب معرفته وتتبعه".
مجتمع المقاومة حاضنة لحزب الله
لا يمكن الإنكار أو الادّعاء أن العقوبات الأمريكية على إيران لم تؤثر على الإمدادات المالية لحزب الله، ولكن لهذا الأمر في السياق اللبناني شأن آخر، فحزب الله غير مرتبط بأي من المؤسسات اللبنانية الرسمية وغير الرسمية، وأي قرار يطال شخصيات أو مؤسسات لبنانية تابعة للحزب لن يكون له أي تأثير فعلي، وهو ما أكده الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في أكثر من مناسبة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن البيئة الحاضنة لمجتمع المقاومة تكفل التعويض عن أي نقص أو تأثير يطال حزب الله على المستوى المالي. وما الالتفاف الشعبي عبر التبرّعات والمبادرات الفردية الداعمة للمقاومة إلا وجه من أوجه هذه الحاضنة التي لا تتصف بـ"الدولرة" كما هو شأن المصارف اللبنانية.
لبنان قادر على المواجهة
ويؤكد محللون اقتصاديون أن الوضع الاقتصادي المهترئ في لبنان هو الذي يشجّع واشنطن على المضي في إرهابها المالي للبنان، وأن حالة الفساد المستشرية في مختلف المواقع الإدارية والمالية هي التي أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار. كما أن ربط الاقتصاد اللبناني بالدولار يجعل من لبنان رهينة لأي إجراء أمريكي في حين يمكن اتخاذ مجموعة خطوات جريئة تحرّر لبنان من عبء الدولار سواء في المعاملات المصرفية أو في التعاملات التجارية الأخرى. فضلاً عن الاهتمام الجدّي باستثمار الثروات الطبيعية من النفط والغاز بعيدًا عن الهدر والفساد والنهب والمحاصصة. ولا يغفل هؤلاء عن الإشارة إلى ضرورة إنماء المناطق ودعم قطاعاتها الزراعية والصناعية وهي التي طالما كانت تشكّل الميزة التفاضلية للبنان، ولا تحظى حتى اليوم بالاهتمام الرسمي اللازم. ويخلص الخبراء للقول إن "لبنان قادر على مواجهة أي عقوبات أمريكية أو غير أمريكية من خلال الاستناد إلى التعامل بالعملة الوطنية مع اتباع سياسة ترشيد فاعلة ونزيهة للإنفاق ودعم المشاريع الاستثمارية التي تعتمد محورياً على الإنتاج المحلي".
إسقاط لبنان خدمة لـ"إسرائيل"
وعلى خطٍ موازٍ، تحذّر أوساط سياسية من مسعىً أمريكي لخلق الفوضى في لبنان على خلفية العقوبات الاقتصادية المتنامية والمتسلسلة، مشيرة إلى أن واشنطن تركّز حاليًا على لبنان باعتباره الساحة المناسبة التي يمكن من خلالها خلق حالة حصار على حزب الله من جهة وضرب التماسك الحكومي من جهة ثانية باتجاه إسقاط البلد وتحريك أذرعها الداخلية تحت عناوين مطلبية لا يناقض أحد أحقّيتها، ويصبح لبنان فريسة سهلة أمام محاولات الابتلاع الإسرائيلية لثرواته في النفط والمياه وملف ترسيم الحدود البرية والبحرية، وعلى الرغم من اعتبارها أن الحكومة اللبنانية لا تزال تتلكأ في إدارة الأزمة وتأكيدها على ضرورة إعلان حالة استنفار عالية للمواجهة، تستبعد الأوساط نفسها أن يحقق هذا المسعى أي نجاح فعلي وملموس، فكل المسؤولين في الدولة والأحزاب والتيارات التي تتشكّل منها الحكومة تؤكد أن المسّ بالاستقرار الداخلي خط أحمر، ولا يمكن السماح لأي أزمة مؤقتة بأن تؤدي إلى فرط البلد تحت ذرائع واهية، ولبنان الذي تغلّب على الأزمات الصعبة لن يكون عاجزاً عن تجاوز الأصعب.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024