معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

البحر الاسود... بحيرة داخلية روسية!
31/12/2018

البحر الاسود... بحيرة داخلية روسية!

صوفياـ جورج حداد

منذ القرون القديمة كان البحر الأسود يمثل بقعة توتر دولي حيث كانت تلتقي فوق مياهه الدافئة حدود ومصالح ومطامح ثلاث كتل دولية هي: الامبراطورية الروسية (المسيحية الشرقية)، والامبراطورية التركية (الاسلامية العثمانية)، واوروبا الغربية (المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية). ودام هذا الوضع طوال مرحلة القرون الوسطى حتى انهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الاولى. وخلال تلك المرحلة اندلعت حروب قاسية فوق مياه البحر الاسود بين الامبراطورية العثمانية (واتباعها التتار والشركس) وبين الامبراطورية الروسية. وكانت الدول الغربية تتدخل دائما لانقاذ الامبراطورية العثمانية من الهزيمة التامة. ومع ذلك استطاع الروس استعادة قسم كبير من الاراضي التاريخية التي سبق للعثمانيين (والتتار والشركس) ان استولوا عليها في شرقي وجنوبي البحر الاسود، ولا سيما شبه جزيرة القرم واقليم ومدينة سوتشي.

وخلال المرحلة السوفياتية كان البحر الاسود يمثل نقطة رئيسية للمواجهة الجيوستراتيجية بين حلف الناتو (ممثلا بتركيا) والكتلة السوفياتية التي كانت تضم روسيا وجميع الدول المشاطئة للبحر الاسود (باستثناء تركيا)، التي كانت تنتمي الى الاتحاد السوفياتي (جورجيا واوكرانيا) او تدور في الفلك السوفياتي (رومانيا وبلغاريا).

وبعد انهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي نشأ وضع جديد تحول فيه البحر الاسود الى رقعة مواجهة بين ثلاث قوى كبرى:

ـ1ـ روسيا القومية ـ الاورثوذوكسية الصاعدة بزعامة فلاديمير بوتين.

ـ2ـ حلف الناتو (بزعامة اميركا) ممثلا برومانيا وبلغاريا (العضوين في الحلف) واوكرانيا وجورجيا (التابعتين للحلف).

ـ3ـ تركيا التي يئست من امكانية ضمها الى الاتحاد الاوروبي واندماجها باوروبا، مما زعزع عضويتها في حلف الناتو.

وخلال هذه المرحلة اخذت تظهر اكثر فأكثر رغبة تركيا في انتهاج سياسة اكثر استقلالية عن الكتلة الناتوية بقيادة اميركا، وحتى عن طريق التقارب البراغماتي مع روسيا. ولكن رجب طيب اردوغان رفع شعار "يجب ان نستعيد اراضي اجدادنا العثمانيين"، وظهرت علامات صارخة تدل على توجه تركيا نحو اعادة بعث سلطنة عثمانية جديدة، بالتعاون مع الجيش الارهابي العالمي (داعش) الذي احتضنته، وذلك على حساب البلدان العربية، والمناطق الاسلامية داخل روسيا الفيديرالية (الشيشان وداغستان)، ومن ثم الجمهوريات الاسلامية السوفياتية السابقة. وقد ردت روسيا بحزم على هذا التوجه التركي: اولا، قامت القوات الروسية بسحق النزعة الانفصالية في الشيشان وداغستان، وبترت تماما اليد التركية التي امتدت الى روسيا. وثانيا، طلبت الحكومة الشرعية السورية من روسيا المساعدة في رد الهجوم الارهابي العالمي ضد سوريا، فتدخل الطيران الروسي وسحق سحقا جحافل الارهابيين وطارد فلولهم الى الحدود التركية.

ولكن في الوقت نفسه فإن روسيا لم تصعّد الدعاية والخطاب السياسيين المعاديين لتركيا، بل على العكس انتهجت سياسة "احتواء" تركيا من ضمن الجيوبوليتيكا العامة لروسيا للتقارب والتعاون والصداقة مع العالم العربي والاسلامي، بصرف النظر عن الاختلافات السياسية والايديولوجية والدينية وجراحات الماضي. وهكذا تجاوزت روسيا كل العقبات ومدت يد الصداقة نحو تركيا ودعتها الى اقامة علاقات حسن الجوار والتعاون، ومدت نحوها انبوب الغاز المسمى "السيل الازرق" لتلبية قسم كبير من حاجة تركيا الى الغاز الروسي الرخيص، كما دعتها الى تطوير السياحة والتجارة بين البلدين، وعرضت انشاء محطة كهرونووية لانتاج الطاقة الكهربائية الرخيصة لتركيا، كما عرضت بيعها منظومة S-400 الشهيرة لتدعيم الدفاع الجوي التركي، بالرغم من عضوية تركيا في حلف الناتو المعادي لروسيا. ولكن قمة العروض الروسية لتركيا فكان عرض انشاء انبوب الغاز المسمى "السيل التركي" الذي يخرج من الاراضي الروسية ويعبر اعماق البحر الاسود ويعبر الاراضي التركية حتى اليونان. وسيكون هذا الانبوب مزدوجا اي ذا انبوبين، الاول للحاجات التركية، والثاني يعبر الاراضي التركية ترانزيت لتوزيع الغاز الروسي الرخيص في مختلف بلدان اوروبا الشرقية والجنوبية والوسطى بما في ذلك ايطاليا والنمسا. وطبعا ان تركيا ستتقاضى رسوم الترانزيت عن الغاز المار في اراضيها، بالاضافة الى الحصول على اسعار غاز مخفضة بصورة تفضيلية. وهذا كله سيعزز الاقتصاد التركي بصورة لا مثيل لها في السابق، في الوقت الذي تعاني فيه الدول الاوروبية الازمات.

والاهم من ذلك انه سيعزز المكانة الجيوبوليتيكية والجيوستراتيجية لتركيا امام جميع دول العالم ولا سيما الدول الاوروبية التي ترددت اكثر من خمسين سنة في ضم تركيا الى عضوية الاتحاد الاوروبي. هذا وقد اعلن الرئيسان بوتين واردوغان ان مشروع "السيل التركي" سيكتمل انجازه في نهاية 2019 ويبدأ العمل في مطلع 2020. انطلاقا من هذه الوقائع الملموسة صار من مصلحة ثاني اكبر قوة بحرية في البحر الاسود (بعد روسيا) اي تركيا صار من مصلحتها ان تمسك روسيا امن البحر الاسود، بل وان من مصلحة تركيا ان تساعد روسيا في ذلك. كما صار من مصلحة الدول الاوروبية المستوردة للغاز الروسي عبر انبوب "السيل التركي" ان تمسك روسيا امن البحر الاسود والانبوب العابر فيه ولو كان بعض تلك الدول عضوا في حلف الناتو المعادي لروسيا.  

هذا احد العوامل الرئيسية المقررة للستراتيجية الروسية في البحر الاحمر. والعامل الرئيسي الثاني هو الدفاع عن شبه جزيرة القرم والسواحل الروسية على البحر الاحمر. ونتوقف باختصار عند هذه النقطة:

في القرون الماضية قدم الروس دماء غزيرة لتحرير شبه جزيرة القرم والسواحل الجنوبية الروسية من العثمانيين واتباعهم التتار والشركس.

وفي القرن الماضي قدم خروتشوف شبه جزيرة القرم "هدية" لاوكرانيا. وطوال المرحلة السابقة حتى سنة 2014 لم تصبح شبه جزيرة القرم اوكرانية سكانيا وظلت الاكثرية السكانية روسية.

وفي شباط 2014 وقع الانقلاب الفاشستي المعادي للروس وروسيا في اوكرانيا وصار المواطنون الروس يقتلون في الشوارع بعصي البيسبول الغليظة. فردت روسيا على ذلك بأن عمدت الى استعادة شبه جزيرة القرم بطريقة شرعية وبعد اجراء استفتاء شعبي للسكان.

والان فإن القيادة الروسية ومعها كل الشعب الروسي تحرص على تطوير شبه جزيرة القرم وحماية امنها. ولهذه الغاية قامت روسيا ببناء جسر مضيق كيرتش الذي يربط الساحل القاري الروسي بشبه جزيرة القرم والاستغناء عن الممر الارضي الاوكراني الى شبه الجزيرة.

وبذلك تم عمليا اغلاق بحر آزوف وتحويله الى بحيرة روسية الخروج والدخول منها واليها يتم بتصريح من السلطات الروسية. وتتصرف روسيا على اساس ان القرم ارض روسية بصرف النظر عمن يعترف او لا يعترف بذلك. وللدفاع عن القرم حشدت روسيا الجيوش والطائرات والغواصات والسفن الحربية للوقوف بوجه اي عدوان محتمل. وتقوم السفن الحربية الروسية بتطويق ومراقبة جميع الموانئ على ساحل البحر الاحمر في جورجيا واوكرانيا ورومانيا وبلغاريا وتتابع كالظل كل سفينة مدنية او حربية تدخل او تخرج من تلك الموانئ. وفي الصيف الماضي دخلت سفينة حربية اميركية في المياه الاقليمية للقرم على اعتبار انها مياه اوكرانية، ولكن السفن والغواصات والطائرات الحربية الروسية طوقتها وانذرتها بالانسحاب فانسحبت بهدوء دون صدور حتى احتجاج كلامي من البحرية الحربية الاميركية. اما في المياه الدولية في البحر الاسود فإن الغواصات والسفن والطائرات الحربية الروسية تقوم بشكل دائم بمناورات استثنائية غير مبرمجة تستخدم احيانا الذخيرة الحية، ويتم اعلام الملاحة البحرية والجوية الاجنبية الحربية والمدنية بعدم استعمال البحر الاحمر ومجاله الجوي اثناء المناورات. وهذا سيؤدي بالتدريج الى موت الملاحة التجارية والسياحية في البلدان المشاطئة للبحر الاسود غير روسيا وتركيا. اما عسكريا فإن حلف الناتو واميركا يتجنبان كليا ارسال السفن والاحتكاك بروسيا في البحر الاسود. ومؤخرا كانت حاملة الطائرات الاميركية هاري ترومان ترابض في بحر ايجه (قريبا جدا من البحر الاسود كمدى عمليات). وحينما علمت بالتنبيهات الروسية بخصوص المناورات الاستثنائية في البحر الاسود انسحبت الى نابولي في ايطاليا، كإشارة حسن النية بأنه لا معنى لمواجهة مع روسيا من اجل سلة سمك من البحر الاسود توضع على مائدة دونالد ترامب او صهره الصهيوني جيرد كوشنير.

ويقول بعض الخبراء انه اذا بقي الحال على هذا المنوال، وبعد نهاية العمل الانشائي في مشروع "السيل التركي" وبداية عمله التجاري، لن يعود بعيدا اليوم الذي تجلس فيه الدولتان الكبيرتان (روسيا وتركيا) الى طاولة المفاوضات للبحث في جميع الاتفاقات الدولية المتعلقة بالملاحة في مضائق البوسفور والدردنيل والبحر الاحمر ووضع الاسس الاولية لصياغة اتفاقات دولية جديدة تأخذ في الاعتبار اولا المصالح العليا لروسيا وتركيا، ومن ثم الدعوة لعقد مؤتمر عالمي لهذه الغاية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل