آراء وتحليلات
بدء مرحلة التراجع الأميركي أمام روسيا والصين وايران
جورج حداد - كاتب لبناني مستقل
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بفعل "خيانة" الستالينيين الجدد (الغورباتشوفيين)، ومجيء العميل بوريس يلتسين الى السلطة في روسيا السوفياتية سابقًا، عمّت فوضى عارمة في جميع نواحي الحياة في روسيا. وعملت الاحتكارات الرأسمالية العالمية وبالأخص اليهودية على تخريب روسيا ونهب ثروات وخيرات هذه البلاد بهدف ارجاعها قرونًا الى الوراء وتحويلها الى مستعمرة عالمثالثية يقوم وجودها على تزويد المتروبولات الغربية بالخامات الطبيعية والنفط والغاز، وتحويل شعبها الى شعب عبيد على النسق "الافريقي" و"الروماني القديم".
لكن الشعب الروسي سرعان ما نهض من كبوته، وشق التيار القومي الروسي بقيادة بوتين طريقه الى السلطة بشكل سلمي وحازم، مدعومًا من الجيش وقوات الأمن والمخابرات ومختلف التيارات الشعبية الروسية. وبدأت السلطة القومية "البوتينية" تعمل لبناء نظام "رأسمالية دولة" تحدّها وتوجهها ثلاث سيرورات تاريخية روسية هي:
الاولى ـ الجذور التاريخية العميقة والعريقة للشعب الروسي، وما ينشأ عنها من عنفوان قومي ـ حضاري، ونبذ العبودية للغرب، ودعوة صادقة للتآخي بين جميع الشعوب والاديان والاتنيات الشرقية الفقيرة والمظلومة.
الثانية ـ إن الشعب الروسي هو الشعب الذي قام بتجربة بناء النظام الاشتراكي وتغيير المسار التاريخي للعالم، وقدم "التضحيات" في هذا السبيل.
الثالثة ـ إن الاتحاد السوفياتي السابق (وقلبه روسيا السلافية) تعرض لأبشع وأفظع عدوان استعماري واستعبادي غربي، من خلال المانيا النازية التي كانت ترفع شعار (المانيا فوق الجميع) والشعار الروماني القديم (السلافيون هم عبيدنا). وبالرغم من النكسة الكبرى التي مني بها الاتحاد السوفياتي، فإن المارد الشعبي الروسي سرعان ما نهض من كبوته. لكن ذلك تم بثمن غال جدًا، حيث قضى ما لا يقل عن 26 ـ 30 مليون جندي ومحارب ومواطن سوفياتي وروسي. من هنا، إن الشعب الروسي لا يمكن أن يتساهل ابدًا مع "الثقافة" العنصرية الغربية التي تقسم العالم الى: أسياد وعبيد والى دول "سوبرمانية" ودول دونية.
وفي العقد الاول من القرن 21 عملت "روسيا القومية" الجديدة بشكل حثيث على اعادة التوازن الى العلاقات الدولية، واستعادة دورها كدولة شرقية عظمى في الجيوستراتيجيا الدولية.
ووجدت الدول الغربية أنه ليس من مصلحتها، وليس في مقدورها، متابعة سياسة محاولة استعمار واستعباد دولة كروسيا، تمتلك ليس فقط الأسلحة النووية، بل والغواصات والطائرات الاستراتيجية، وشتى أنواع الصواريخ الكفيلة بنقل وتفجير القنابل النووية في أي بقعة في العالم الغربي كله.
لكن مع هذا التراجع فإن الدول الغربية وعلى رأسها أميركا، لم تتخل عن سياستها الامبريالية المعادية لجميع شعوب العالم. بل هي غيرت تكتيك تعاملها مع روسيا، ووضعت نصب عينيها العمل لاستمالة روسيا للانضمام الى السياسة الامبريالية للدول الغربية وأن تصبح شريكتها في هذه السياسة، وتحصل على حصتها "الشرعية" من فوائد وعوائد السياسة الامبريالية الدولية في مواجهة شعوب الصين والهند والشرق الاقصى والشرق الاوسط وافريقيا واميركا اللاتينية. ولهذه الغاية تمت دعوة روسيا لارسال ممثلين دائمين من قبلها لدى حلف الناتو والاتحاد الاوروبي، وأنشئت لهذا الغرض لجنة تنسيق دائمة ناتوية ـ روسية، ولجنة أخرى اتحاد اوروبية ـ روسية. وتم ضم روسيا الى مجموعة الـ20 الكبار G-20 ومجموعة الـ7 الكبار G-7 التي تحولت الى الـ8 الكبار G-8 بعد ضم روسيا اليها. واتيح لروسيا ان تترأس مرتين مجموعة الـ8 الكبار G-8، وطرحت على جدول الاعمال مسألة ضم روسيا الى "منظمة التجارة العالمية". وأعلنت أميركا، ولو ظاهريًا، امتناعها عن تطبيق برنامج نشر شبكة الصواريخ المضادة للصواريخ في اوروبا الشرقية، مما يهدد الامن القومي الروسي.
لكن سياسة "اللين" هذه لم تؤد الى استمالة روسيا لتنضم الى نادي الدول الامبريالية وتغدو شريكًا للكتلة الغربية بزعامة الامبريالية الاميركية واليهودية العالمية.
وحينذاك، رفعت أميركا وكتلتها الغربية البطاقة الحمراء في وجه روسيا، وبدأ استبعادها من هيئات التنسيق المشتركة، وتجددت الحرب الباردة، ونظم الانقلاب الاوكراني المعادي لموسكو، ما ألزم روسيا بقبول عودة القرم للانضمام اليها بعد اجراء استفتاء شعبي قررت فيه الأغلبية الساحقة من سكان القرم العودة الى أحضان الوطن الأم روسيا. ووقف العالم على شفير اندلاع الحرب العالمية الثالثة حينما أرسلت أميركا والناتو الغواصات والسفن الحربية الى البحر الأسود لاسترجاع شبه جزيرة القرم بالقوة. لكن سفن الأسطول الحربي الروسي وقفت أمامها بثبات وكاد الحديد يقرع الحديد، وحلق الطيران الروس فوق حوض البحر الأسود وأمر جميع الغواصات والسفن الحربية الاميركية بالصعود الى سطح الماء وأمر بحارتها بالصعود الى سطوح غواصاتهم وسفنهم وإلا.. فنفذ الاميركيون ما طلب منهم صاغرين، وهم لا يصدقون انهم سينفذون بجلودهم.
على اثر ذلك، بدأت اميركا تطبيق سياسة المقاطعة والحصار وفرض العقوبات الاقتصادية والمالية الشديدة ضد روسيا، كما هو الحال ضد ايران. طبعًا، جرى استبعاد روسيا من مجموعة الـ8 الكبار G-8 التي عادت الى صيغتها السابقة الـ7 الكبار G-7 وهي: بريطانيا، المانيا، ايطاليا، كندا، اميركا، فرنسا واليابان.
وفي الوقت ذاته بدأت اميركا حربًا تجارية قاسية ضد الصين. كما قامت حكومة جبل طارق الخاضعة لبريطانيا باحتجاز غير مشروع لناقلة نفط ايرانية بناء على طلب اميركي.
لكن ماذا جنت اميركا من هذه السياسة الامبريالية الرعناء؟
لم تجنِ سوى الفشل. حيث بدأت الهيبة الدولية لاميركا في الترنح واقتصادها يتزعزع. وقد اضطرت أخيرًا لاغماض العين عن الافراج عن ناقلة النفط الايرانية في جبل طارق.
وفي الاجتماع الأخير لمجموعة الـ7 الكبار G-7 الذي عقد مؤخرًا في فرنسا، أُعلن عن رغبة أميركا في التفاوض مع ايران وتجديد المفاوضات التجارية مع الصين. وعبر الرئيس الاميركي دونالد ترامب عن تأييده لاعادة ضم روسيا الى مجموعة الـ7 الكبار، والعودة الى صيغة مجموعة الثمانية الكبار G-8. وأعلن ترامب عن اعتقاده أن المشكلات العالمية لا يمكن حلها بدون روسيا. وصرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن روسيا لا تتمسك بصيغة الـ8 الكبار، وأنها تدعم فكرة توسيع هذه الصيغة لتضم أيضًا الصين والهند لما لهما من تأثير كبير على السياسة الدولية.
ويرى بعض المحللين أن أميركا انما تهدف من وراء العودة الى استمالة روسيا الى دق اسفين بينها وبين الصين. في حين ترى غالبية المحللين ان هذه علامة اخرى من علامات تراجع اميركا أمام الصلابة التي أبدتها كل من روسيا والصين وايران بوجه السياسة العدائية لاميركا وكتلتها الغربية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
12/11/2024
حسابات حقول العدوان وبيادر الميدان
11/11/2024