نصر من الله

نقاط على الحروف

عمَّ حدثت الأرض العائدين اليها؟
05/02/2025

عمَّ حدثت الأرض العائدين اليها؟

تفيض أعين العائدين عزّة تعلو فوق الجراح وفوق الخسائر. يصلون أعتاب بيوتهم، أو ما بقي من ركامها.. يطوفون حول كلّ أثر في قراهم، وهي ترمقهم بشوق يعادل ألف عام من غياب.. يحدّثونك عمّا أحسّوا في اللقاء الأوّل بعد حرب وقهر، وعمّا حدّثتهم به الأماكن..

حين دخل أهل الخيام قلعتهم محرّرِين قالوا، إنهم وجدوا في كلّ ركن في المدينة المقاتِلة أثر شهيد.. قالوا، إنّ أرضهم مزروعة بالشهداء، وإنّ في كلّ هبّة نسيم هناك عطراً، كأنّه المسك. يخبرون، بحنوّ عامليّ ساحر، عن دموعهم الفارّة من حبس الانتظار، وهم يدخلون أحياء الخيام يتفقّدون لا بيوتهم وأرزاقهم وإنّما ما جرى على حبيبتهم في الغياب.. عن صيحات الشّوق التي أطلقوها حنينًا إلى أعتاب دورهم الشامخة في ركامها، عن ضمّات الأحبة وقد التقوا فوق الدمار وتواصوا بالعزّة وبالصّبر، وخجلوا، والله خجلوا، من قول "آه" الحزن على بيت دُمّر أو رزق تلف.. فالدّم يرفع منسوب الحياء إلى أقصاه. 

كفركلا.. بل ما بقي من بيوت كفركلا، وحارات كفركلا، انتظرت عودة أولادها بيقين تام، أنْ مهما طال الضيم سيعودون. تراهم وهم يسيرون في ما كان يومًا دروبها المزهوة بالورد وبالحبق، يتحدثون عن شهيد لهم مرّ من هنا، عن حزن استقر في قلوبهم وزال بمسحة من رائحة الضيعة.. جلسوا كلّ قرب مكان بيته. تبادلوا نظرات الحبّ والمواساة. حدّثوا عن اعتزازهم المتصاعد مع تصاعد الوجع الذي مزّق قلوبهم.. قالوا إنّنا رغم هذا القهر ما زلنا واقفين.. أهل حقّ في وجه عدوان جائر.. 

حولا.. بدت كأنها تنفض غبار الركام عن ذراعيها لتضمّ العائدين إلى صدرها، وتستقبلهم في حضنها الترابيّ المقاوم. بلهجتهم الأخاذة وبأصواتهم الصادحة اعتزازًا وحبًّا، ساروا في طرقات البلدة المدمّرة والمحمّلة بوجع أشهر النار التي طالت. لامسوا العشب الطريّ المذخّر بالدم العزيز. تنهّدوا عميقًا ولا مكابرة على ألم الخسائر، ولكن وحده العاجز عن فهم حقيقة النصر يترجم الخسارة إلى هزيمة.. ويحسب التألّم دليل ضعف أو انهزام. 

مشيًا إلى "ميس الجبل"، اللطيفة الوادعة التي استحالت بفعل القصف ساحة ناطقة بكلّ حكايات الحرب، احتضن الأهالي حجارة دورهم وما تبقى من شجر وزرع. طمأنوا ترابهم إلى أنّهم عادوا مدجّجين بالفخر وبالوجع. وأنّ الرّكام الصارخ هذا سيُزال وتعود البيوت.. وهل ينتظر أهل الدار بناء البيت كي يسكنوا! لا، والله.. فوق الركام استراحوا من غربات النزوح والتهجير، وقالوا إن هنا بيتنا، سواء كان السقف حجرًا أو "شادرًا"..

في حارات عيترون، نطقت الحجارة المتناثرة من بيوت "الضيعة" بما جرى عليها لأبنائها، شكت لهم هول الشوق إليهم وأسرَّت لهم بما حفظت بين ضلوعها من أثر الشهداء.. قالت لهم، أن يباهوا أهل العالم بما قدّمت عيترونهم.. جال أهل البلد في بلدتهم بعد غربة قسرية. هنا، نصبوا خيامًا فوق ركام المنازل التي سوّيت بالأرض حقدًا وانتقامًا. اجتمعوا في ساحة البلدة، تمامًا كما في يوم التحرير عام ٢٠٠٠. صوت الأناشيد يعلو. وصوت الفقد يعلو.. ولا يعلو فوقهما إلّا نظرات العزّة الشامخة المخضّبة بتنهيدات القهر. 

في هذه الأيام المرصّعة بالحداد وبحروف "ما رأينا إلّا جميلًا"، تباهي قرى الحافة الأمامية كلّ أهل الدنيا بصمودها الأسطوري، وبقدرتها العالية على المجابهة رغم هول الوجع.. وبعزّتها المثخنة بالدم الأعزّ والأطهر.. تراها وهي ترفع صور شهدائها، وتبحث بأصابع الأمومة عن أثر لشهيد تحت ركام أو في تراب حنّ على الجسد الشريف.. تراها وهي تعلن نصرها في المشهد المحمّل بأعلى درجات الألم.. خسرنا الكثير نعم، تقول ويقول أهلها.. ولكن لا نُهزم، والله، لا نهزم.

الشهداءالمقاومةالجنوب

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة