نقاط على الحروف
قصة كل يوم.. من غزّة
اتكأ على حجرٍ عند زاوية خيمته، وبدأ كأيّ نازحٍ أصيل، يحدث الملتفين حوله عن همومه واهتماماته اليومية، وكيف يجاهد لتوفير مستلزماته وأسرته، من مياه الاستخدام اليومي إلى مياه الشرب، ثم حطب الطهي ومستلزمات الطاقة من شحنٍ وبطاريات، وصولًا إلى المأكل وحاجيات النظافة الشخصية، وكلها تتم إن قُدّرَ لها النجاح بشقّ الأنفس.
وشيئًا فشيئًا بدأت تظهر عليه علامات القلق والتوتر، وكلما اقترب الحديث من منطقة النيكوتين، ارتفع منسوب التوتر الذي يظهر في حركات يديه المتلاحقة وتيه عينيه، ولم يستطع تمالك نفسه وإبداء سخطه على كل شيء، لشدة افتقاره للقدرة على التدخين، وكان يردد "يعني أبيع كليتي لأشتري سيجارة واحدة"، وكان يريد سلطةً لتشريع قتل جميع تجار السجائر.
هنا خرجت من الخيمة طفلة تبدو أنّها كانت شقراء يومًا، وتحولت بفعل سُكنى الخيمة في حرّ الصيف للسُمرة، وكانت تبدو في الخامسة من عمرها، وتقدمت نحو أبيها على استحياءٍ ووجل، واقتربت منه بقدر ما ساعدتها شجاعتها، وهو في ذروة ثورته النيكوتينية، وقالت بصوتٍ أرادته غير مسموع، "أمي تريد علبة حليب لعماد"، ويبدو أنّه الرضيع الذي وُلد قبل الحرب بقليل، وعادت مسرعةً للخيمة.
هنا سكت قليلًا.. وطأطأ رأسه قبل أن يتساءل بكل المرار، "متى ستنتهي الحرب؟". بدا السؤال غريبًا ومُلغزًا، ولا يبحث عن أيّ إجاباتٍ سياسية، سؤال على عكس كل الأسئلة، ليس لديه شغف المعرفة، ولا يحمل في متنه الشكّ من أجل اليقين، بل هو الإجابة التي بين السطور، الإجابة التي تعتلي متن السؤال.
وقف أحد الجالسين، والذي يبدو أنّه قرأ الإجابة، وقال له: تعالْ أخبرك متى ستنتهي الحرب يا صديقي، فقام من متكئه وذهبا معًا حتى غابا في زحام غابة الخيام، وأكمل الجلوس حديثهم عن يومياتهم التي تحمل التفاصيل شديدة الملل، شديدة التشابه، شديدة التضاد.
وبعد برهةٍ عادا بخطوةٍ سريعة، وكان صاحبنا يحمل كيسًا يبدو أنّ فيه عبوة الحليب وبعض حاجيات الرُضّع. نادى على ابنته وحين أجابت وسارعت للتلبية، ناولها الكيس متهللًا وقال هذا الحليب، وفيه أشياء أخرى، وقد جلبت لك بعض السكاكر، فانفرجت شفاه الصغيرة عن أعذب ابتسامة رضا قد تراها يومًا.
بعد أن حُلّت إحدى معضلاته اليومية، عن طريق صديقٍ فهم سؤاله الملغز، عاد ليتحدث عن زوايا الحرب المظلمة، وبدأ بطرح أسئلةٍ ليست للنقاش، أسئلة تحلق في الفراغ، أسئلة تستفزك كحلقات التدريب على الإمساك بدجاجة، نظريًا الأمر سهل والجواب سهل، كالتفكير بسهولة الإمساك بدجاجة، لكنه عمليًا صعبٌ جدًا حد الاستفزاز.
أسئلةٌ من قبيل لماذا لا يبدو من أثرٍ لكل هذا؟ قرارت أممية، محاكمات دولية، مظاهرات شعبية، احتجاجات طلابية، إدانات دولية ومناشدات حقوقية وإنسانية، وكل هذا وغيره لا أثر له على يوميات الحرب، فلا العدو يكف عن القتل والتدمير، ولا يتراجع قيد أنملةٍ عن الإجرام النافر.
متى تشعر غزة بأثرٍ لكل ما يحدث خارجها؟ ومتى تصبح خطوات العدو مدروسة في غزة درءًا لعقوبة؟
فالعدو يغطي على المجزرة بمجزرة، وعلى نسف المربعات السكنية بنسف آخر، ويخبئ أحزمته النارية في علانية أحزمةٍ أكثر، ويداري على جرائم التجويع بمزيدٍ من التجويع والحصار، ويغطي على جريمة التهجير بجرائم تهجيرٍ جماعية، ومجازر جماعية.
فجأةً خفت صوته الهادر، وبدا رغم العتمة أنّ دمعةً ترقرقت في عينيه وأبت النزول، فقام وقال مودعًا، تصبحون على سلام، ودخل إلى خيمته، وبدأ الجمع ينفضّ شيئًا فشيئًا، وكلٌ يحدث نفسه عن الغدّ، وكيف سيساهمون في مساعدة هذا الصديق أقلّه معنويًا.
في الساعة الثانية عشرة ليلًا كان العاجل الخبري، قصف خيمةٍ للنازحين واستشهاد أسرة من أربعة أفراد، ربّ الأسرة وزوجته وطفلته وطفله الرضيع.
وقد أصبح وحده وأسرته في سلام.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
25/11/2024
بيانات "الإعلام الحربي": العزّة الموثّقة!
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024