معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

نداءات الإمام الخامنئي إلى الشباب الغربي: نحو تشييد جبهة المقاومة العالميّة
16/06/2024

نداءات الإمام الخامنئي إلى الشباب الغربي: نحو تشييد جبهة المقاومة العالميّة

عبد الله عيسى

لا تجد لمبادرة الإمام السيد علي الخامنئي نظيرًا لها على امتداد مساحة هذا العالم بمختلف أديانه وأفكاره واتّجاهاته ضمن الربع الأوّل من هذا القرن لناحية أصل إبراقه رسائله الثلاث - فضلًا عن مضامينها السامية وأغراضها الكبرى - (21 كانون الثاني و29 تشرين الثاني 2015، و30 أيّار 2024) إلى جميع الشباب في أوروبا وأميركا الشماليّة في الرسالتين الأوليين، وإلى الطلّاب في جامعات الولايات المتّحدة الأميركيّة الذين حَثّتهُم ضمائرهم الحيّة على الدّفاعِ عن نساء غزّةَ وأطفالِها المظلومين، في الرسالة الثالثة. 

ولا تجد كالإمام الخامنئي ضنينًا على هويّته التي يؤمن بها، وعلى المشترك الإنساني الذي يتماهى تمامًا مع عمق إيمانه، في التصدّي وحمل المسؤوليّة الرساليّة بأفقها العالمي والحضاري، تستنبط تلك الرسائل من التاريخ والتأريخ منطق استدلالها، وتترجم كوثيقة تعبّر عن الواقع وأحداثه، وعن الفاعل الاجتماعي في حركته وتأثيره، وعن القائد السياسي والديني في إقامته الحجّة وفي اختياره الأسلوب والوسيلة والمحتوى وتعيينه الهدف والموضوع والحدث، وفي رؤيته واستشرافه وتحديد موطن رهانه، وإسهامه في انعطاف التاريخ والاجتماع الإنساني إلى المنشود والمأمول وفق السنن الإلهيّة وشروطها الإنسانيّة.
 يبرز الإمام الخامنئي ناصحًا ومحاورًا يتجاوز عقم السجال حول صراع الحضارات أو حوارها إلى أفق عقلاني واقعي ثوري بامتياز، مدركًا اللحظة وأهميّتها، وهي الأحداث الدمويّة التي يهتزّ  لها الضمير الإنسانيّ في العالم، سواء تلك التي عصفت في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبيّة أو تلك الإبادة العالميّة بأيدٍ صهيونيّة إجراميّة مستمرّة في غزّة وفلسطين المحتلة.

يشخّص المخاطَب أو المحاوَر بدقّة وهي شريحة الشباب الغربي، موضحًا انتخابه لهذه الشريحة بعيدًا عن الآباء والأمهات أو السياسيّين والمسؤولين الذين "فصلوا درب السياسة عن مسار الصدق والحقيقة"، جاعلًا الشباب الغربي في مواجهة المثقفين والنخب، فيثير التساؤلات بحكمة عن الوجدان العام الذي لا يستيقظ في الغرب دائمًا إلا متأخّرًا عشرات أو مئات السنين، وتتّجه إعادة النظر فيه نحو الماضي البعيد وتهمل الأحداث المعاصرة، ويطرحُ تساؤلات أخرى من شأنها الإمساك بمفاتيح الإجابة العلميّة والسلوك العمليّ.

ويبرز كخبير تاريخي وعالم اجتماع سياسي محترف، كأنما نزل إلى حقله البحثي، يوصّف الواقع من خلال الوقائع ويبيّن أثر المجتمع على الفرد وتكوين وعيه وخياراته، ويحلّل ذلك ويفسّره ويستشرف على أرضيته مآلاته، ومن خلال إماطته اللثام عن العنف الملموس والرمزي الذي يرتكبه الغرب تجاه الدول والشعوب الأخرى، مستندًا إلى العقل والتجارب المريرة والمشاعر والعواطف الإنسانيّة المشتركة، وإلى الهمّ والألم المشترك في هذه اللحظة وهذه المناسبة، مستفيدًا من المقارنة في استصراخ الضمائر وتنبيهها، وإيقاظها من غفلتها أو جهلها المركّب، جهلها بالحقائق وجهلها أنها تجهل ذلك، ويتناول كلّ ذلك في إطار جهاده التبييني ومنهجه وسعيه الحثيث لتشييد الحضارة الإنسانيّة الإلهيّة، وهي الحلقة الأخيرة من بنية أطروحته كمفكّر وقائدٍ في آن معًا.

ابتناءً على قناعته الراسخة بأنّ القضايا المؤلمة إذا لم توفّر الأرضيّة للتفكير بالحلول ولم تُعطِ الفرصة لتبادل الأفكار، فإنّ الخسارة ستكون مضاعفة، ومعاناة أي إنسان في أيّ مكان من العالم، بحدّ ذاتها تثير الحزن لبني البشر؛ سواء وقعت في فرنسا، أو في فلسطين والعراق ولبنان وسورية؛ دفعت الأحداث المريرة التي ارتكبها الإرهاب الأعمى وعصفت في فرنسا وبعض الدول الغربية الأخرى عام 2015 وما سبقه منها، وشجّعت الإمام الخامنئي أن يبرق برسالتين إلى جميع الشباب في أوروبا وأميركا الشماليّة ويتحدّث معهم عنها مباشرة، بما رأى فيهم من القدرة على أن يجدوا السبل الجديدة لبناء المستقبل الشفّاف والمطمئن، وسدّ الطرق الخاطئة التي أوصلت الغرب إلى ما هو عليه الآن. ولأن حسّ البحث عن الحقيقة في قلوبهم أكثر حيوية ووعيًا في استلهام العبر والدروس وإثارة التساؤلات الجديدة في ذهنهم الوقّاد والباحث عن الحقيقة، فإنّه يتوقّف عليهم أن يشرّحوا الطبقات الظاهرية لمجتمعاتهم ويعثروا على مواطن العقد والأحقاد ويزيلوها، وأن يرسوا أسس تعامل صحيح ومشرّف مع العالم الإسلامي، على أساس المنطق السليم والمعرفة الصحيحة والعميقة والمباشرة ودون واسطة عن الدين الإسلامي، المستمدّة من مصادره الأصيلة ومنابعه الأولى، عبر مواجهة سيل الاتهامات والتصوّرات المسبقة والإعلام الذي يسلب إمكانية الحكم الموضوعي. فاغتنم الإمام الخامنئي تلك الأحداث مؤكّدًا ومبيّنًا الآتي: 

1. ضرورة إدراك الواقع دون حكم مسبق؛ مما يرسم للأجيال الآتية صورة هذه المرحلة من تاريخ التعامل الغربي مع الإسلام، بألمٍ أقل زخمًا ووجدانٍ أكثر اطمئنانًا. فالصورة التي يجري تقديمها عن الإسلام بصورة العدوّ المخيف كجزء من ماضي طويلٍ في التاريخ السياسي للغرب يعتمد منهجية قائمة على إثارة مشاعر الرعب والكراهية واستغلالها. ويتّجه نظام القوّة والسلطة في عالم اليوم نحو تهميش الفكر الإسلامي وجرّه إلى حالة الانفعال وردات الفعل. التساؤل والبحث عن عوامل هذا التشويه الواسع للإسلام، وعن المنافع التي تجنيها هذه القوى عبر تقديم صورة مشوّهة وخاطئة عنه "الإرهابيّون العملاء يمثلون الإسلام!"، وعن المفاهيم والقيم الموجودة فيه التي تزعج وتزاحم برامج ومشاريع القوى الكبرى.

2. إن العالم الإسلامي كان ضحيّة الإرهاب والعنف بأبعاد أوسع بكثير، وبحجم أضخم، ولفترة أطول بكثير مما شهدته فرنسا وسائر الدول الأوروبيّة من أحداث. وإن هذا العنف كان مدعومًا على الدوام من قبل بعض القوى الكبرى بشكل مؤثّر وبأساليب مختلفة؛ كدور الولايات المتحدة الأميركيّة في تكوين وتقوية وتسليح "القاعدة" و"طالبان"، وامتداداتهما المشؤومة، وكدعم الغرب لـ"إرهاب الدولة" الذي ترتكبه "إسرائيل". 

3. إن العودة إلى الدراسات التاريخيّة والنقديّة المعاصرة تنبئ عن التعامل غير الصادق والمزيِّف للحكومات الغربيّة تجاه سائر الشعوب والثقافات في استرقاق العبيد والسلوك الاستعماريّ وظلم ذوي البشرة الملوّنة وغير المسيحيّين وسفك الدماء باسم الدين بين البروتستانت والكاثوليك أو باسم القوميّة والوطنيّة خلال الحربين العالميّتين الأولى والثانية. فالجذور الأساسيّة للعنف وأسباب ميول بعض الأوروبيّين إلى الجماعات الإرهابيّة تعود للتغذية الثقافيّة غير السليمة في بيئة ملوّثة ومنتجة للعنف (في الغرب)، ولإيجاد العِقَد بسبب البغض العميق الناتج عن عدم المساواة والتمييز داخل الغرب وتفجّرها بهذه الأشكال المرضِيّة. كما أن التقاء الاستعمار بفكر متطرّف منبوذ نشأ في قلب قبيلة بدويّة، قد زرع بذور التطرّف في هذه المنطقة، وكانت ثمرة التواصل الفاشل مع الثقافات المستوردة جماعات دنيئة مثل "داعش". ومن جهة أخرى إن فرض الثقافة الغربيّة على سائر الشعوب بمثابة عنف صامت خطير الضرر، يصاحبه إذلال الثقافات الغنيّة، مع أن الثقافة الغربيّة ليست جديرة ولا تصلح أن تكون بديلة عنها لاحتوائها على عنصري "العدوانيّة" و"التحلّل الأخلاقي".

4. سيادة التناقض والمعايير المزدوجة على السياسة الغربيّة في تقسيمها مفهوم الإرهاب إلى أنواع حسنة وأخرى سيّئة، وفي تعامل الغرب مع حركة الصحوة في العالم الإسلامي، وترجيح مصالح الحكومات على القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة، ودعوة المسلمين إلى أن لا يعتبروا أنفسهم مظلومين بالرغم من الحملات العسكريّة الغربيّة عليهم! 

5. تتكرّر الأخطاء الكبيرة في مواجهة الإرهاب من خلال اعتماد ردود الأفعال المتسرّعة والحركات الانفعاليّة والتدابير والإجراءات السطحيّة. ومن نتائج ردّات الفعل المتسرّعة في مواجهة الإرهاب دفع المجتمع المسلم في أوروبا وأميركا نحو العزلة أو الخوف والاضطراب، وحرمان المسلمين الأوروبيّين من حقوقهم الأساسيّة، وفتح سبيل الاضطرابات المستقبليّة مع ازدياد الاستقطابات الموجودة خاصة مع جعل إطار قانوني للإجراءات السطحيّة. والظلم يرتدّ عكسيًا، ومن هنا لزوم اجتناب السلوك الظالم مع المسلمين الذين لا يستحقّون هذا الجحود، بعد أن كان الغربيّون ضيوفًا في دار الإسلام وامتدت أعينهم إلى ثروات أصحاب الدار، وبعدما انتفعوا من أعمال المسلمين وأفكارهم، ولم يلاقوا منهم في الغالب سوى المحبّة والصبر.

وإبّان الحرب العالميّة على غزّة، وبعد مضيّ نحو ثمانية أشهر على اندلاعها، أبرق الإمام الخامنئي رسالة التعاطف والتآزر بتاريخ 30 أيّار 2024 إلى الطلّاب في جامعات الولايات المتّحدة الأميركيّة بوصفهم جزءًا من "جبهة المقاومة" لوقوفهم في الجهة الصحيحة من تاريخ يَطوي صفحاتِه، ولشروعهم بنضالٍ شريفٍ تحت ضُغوط حكومتِهم القاسية، التي تُجاهِر بِدفاعِها عن الكيانِ الصهيونيّ الغاصب، منوّهًا بجبهة المقاومة العظيمة التي تُكافح منذُ سنين، في نقطةٍ بعيدةٍ، بالإدراكِ نَفسِهِ وبالمشاعرِ ذاتِها التي يعيشونها الآن، ومبيّنًا الآتي: 

1. أدخَل رأسماليّو الشبكَة الصهيونيّة إثر الحرب العالميّة الأولى، وبدعم من الحكومة البريطانيّة، عدَّة آلاف من الإرهابيّين على نحوٍ تدريجيّ، وهاجَموا مُدُنَ وقُرى فلسطين ذات التاريخ العريق، وقَتلوا عشرات الآلافِ أو هَجّروهم إلى دول الجوار، وسَلبوهُمُ البيوتَ والأسواقَ والمزارعَ، ثُمّ أسّسوا في أرضِها المُغتصبةِ كيانًا يُدعى "إسرائيل". وإنّ أكبر داعم لهذا الكيانِ الغاصب، بعد المساعداتِ البريطانيِّة الأولى، هو حكومة الولايات المتحدة الأميركيّة التي ما زالَت تُقدّمُ مُختلفَ أنواعِ الدّعمِ السياسيِّ والاقتصاديِّ والتَسليحيِّ لذاك الكيانِ بنَحوٍ متواصل، كما أنّها بِمُجازفَتها التي لا تُغتَفَر، أشرَعَتِ الطريق أمامه لإنتاج السلاح النوويِّ وأعاَنته في هذا المسار.

2. الهَدفُ من هذا الكفاح هو وقف الظّلم الفاضِح الذي ألحقَه الإرهاب الصهيونيّ بالشّعب الفلسطينيِّ الأعزَل الذي يَجمع المسلمين والمسيحيّين واليهود، مُنذ عُقود خَلَت، بعدَ أن احتَلّت أرضه المستقلّة. وبعد أن انتهَجَ مُنذ اليوم الأوّل، سياسَة القَبضة الحَديديّة، وضاعفَ قَسوته واغتيالاته وقمعه، مِن دونِ الاكتراث لكلِّ القيمِ الوجدانيّةِ والإنسانيّةِ والدينيّةِ.

3. أنَّ الحُكومَة الأميركيّة وشركاءَها امتنعوا حتّى عن إبداءِ استيائِهم، ولو لمرّةٍ واحدةٍ، إزاءَ إرهابِ الدولةِ هذا، والظلمِ المتواصِل. واليومَ أيضًا، إنَّ بعضَ تَصريحاتِ حُكومةِ الولاياتِ المُتّحدةِ حَولَ الجريمةِ المروّعةِ في غزّة، هي نِفاقٌ لَيسَ إلّا.

4. لَقَد انبَثَقَت جَبهةُ المقاومةِ من قلبِ هذهِ الأجواءِ المُظلمةِ، التي يخيّمُ عليها اليأسُ، وعَزّزَ رَفعتَها وقُوّتَها تأسيسُ حكومةِ الجُمهوريّةِ الإسلاميّةِ في إيران. لقد قدّمَ قادَةُ الصّهيونيّةِ الدوليّةِ، الذينَ يستحوذونَ على مُعظَمِ المُؤسساتِ الإعلاميّةِ في أميركا وأوروبا أو يُخضِعونَها لنُفوذِ أموالِهم والرِشا، هذهِ المقاومةَ الإنسانيّةَ والشُّجاعةَ على أنّها إرهاب!

5. إنَّ قادةَ الغطرسةِ العالميّة لا يَرحمونَ حتّى المفاهيمَ الإنسانيّةَ! إنّهُم يقدّمونَ الكيانَ الإسرائيليَّ الإرهابيَّ عَديمَ الرحمةِ مُدافعًا عن النّفسِ، ويَنعَتونَ مُقاومَةَ فِلسطينَ، التي تُدافِعُ عَن حُريَّتِها وأمنِها وَحقِّها في تقريرِ مَصيرها، بالإرهاب!

6. إنّ الأوضاعَ في طَورِ التغييرِ، وأمامَ منطقةِ غَربيِ آسيا الحساسةِ مصيرٌ آخَر. لقد صَحَت ضَمائِرُ كَثيرةٌ على مُستَوى العالَم، فالحقيقةُ في طَورِ الظُّهور.كما أنَّ جبهَةَ المُقاومةِ باتَت قويّةً، وستَغدو أكثر قُوّةً. وإنّها بالاستلهامِ مِن درس القرآنِ بالثّباتُ على طريقِ الحقّ ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (هود، 112)، وبشأنِ العلاقاتِ بين البشرِ هو: ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة، 279)، وبمثيلاتِها من مئاتِ التعاليمِ، والعملِ بها، تَمضي قُدُمًا، لتُحقّقُ النّصرَ بإذن الله، مجدِّدًا وصيّته للشباب بالتعرّف إلى القرآن مباشرةً، مراكمًا على رسالتيه الأوليين شواهد من الآيات. وفي ذلك يبني الإمام الخامنئي على المشترك الإنساني دعائم الانتقال من محور المقاومة الذي تشكّل بمقتضى مواجهة الإرهاب التكفيري إلى جبهة المقاومة العالميّة بموجب مواجهة الحرب العالميّة على غزّة.
وهكذا فإن كلّ مؤامرة ترتدّ وبالًا على صانعيها، وطابخُ السُّمّ آكله، ودماء مئات الآلاف من الأبرياء في العالم المسفوكة بفعل إرهاب الهيمنة الغربيّة لن تذهب هدرًا إنما سترسم مستقبلًا يتجاوز خطوط الصراع المباشرة إلى مناشئه المركزيّة.

رسائل الإمام إلى شباب الغرب

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف