نقاط على الحروف
صدفة تنقذ "أتيليه القاهرة" من ورثة "كوهين"
القاهرة ـ دعاء صالح / أحمد فؤاد
حرب مفتوحة تخوضها الحكومة المصرية ضد المتبقي من منارات الثقافة والإبداع، خاصة في القاهرة، بكامل أجهزتها ومؤسساتها، في استمرار لمنهج قتل الدور الثقافي المصري، وإمكانات تطوره، ليلحق بالقوة الناعمة المصرية، الذاهبة من قبله إلى جب النسيان، وتنطفئ علامة متوهجة على جبين الماضي، الذي كان جميلًا.
الثقافة ابتداءً ليست فعلًا نخبويًا، بل الأدق اعتبارها قاطرة أمة ناهضة، قادرة على ترجمة أسئلة الوعي والمستقبل، قادرة على صياغة علاقة صحية داخل المجتمع، ناقدة وبناءة، تطرح الحلول على عقول المهتمين، ولا تتوقف عند حلقات ضيقة لجماعة ثقافية محدودة العدد والتأثير، بما يصب في مصلحة إعادة بناء الشخصية المصرية، بارتباطها العروبي والإسلامي والإفريقي، ومن ثم، صياغة الروح المصرية، بتنوعاتها الهائلة، وروحها المتجددة الوثابة.
لكن الثقافة، التي يفترض بها أن تكون إحدى أولويات الدولة، تواجه ما تواجه من حرب ضروس، من نظام يكره الإبداع والنقد، ويحرص على تجذير وجوده بتصدير الوهم، ومحاولة صنع إنجازات تستوي بالعدم، ويخاصم أصلًا الروح المصرية، سواء بأفعاله أو أقواله، محولًا البلد إلى كيان طارد لكل متفوق، جاعلًا الهجرة أحد أسمى أحلام الشباب، وأولها على لائحة المستقبل المنشود.
وزارة التضامن الاجتماعي أعلنت النفير ضد أتيليه القاهرة، الصرح الثقافي المصري الكائن بالقرب من ميدان التحرير، ميدان الثورة المصرية الأول، وباعث الفخر والأمل في التغيير، وهي دلالة لا تخفى على عاقل، وحجة الوزارة وجود مجلس إدارة "غير شرعي"، من وجهة نظر موظفيها بالطبع، والهدف إعادة المبنى العريق إلى ورثة عائلة "ليندا كوهين" اليهودية، في دلالة أخرى على توجه كريه إلى أحضان الحليف الصهيوني.
تبدأ قصة أزمة "أتيليه القاهرة" في العام 2015، مع الانتخابات التجديدية لثلثي أعضاء مجلس الإدارة، والتي استدعت تدخلًا غريبًا من وزارة التضامن، والتي يتبعها الأتيليه تنظيميًا، ورفعت دعوى ببطلان الانتخابات، وقضت المحاكم المصرية بإسقاط الدعوى في كانون الأول/ ديسمبر 2018.
وخطت وزارة التضامن خطوتها الانتقامية الكبرى، برفع دعوى جديدة، مشتركة بينها وبين محافظ القاهرة، بحل الأتيليه، وتسليم المبنى لورثة مالكة يهودية، جانيت كوهين.
وعن تفاصيل الدعوى الجديدة، يقول الفنان التشكيلي أحمد الجنايني، رئيس مجلس إدارة أتيليه القاهرة، في تصريحات خاصة لـ"العهد"، إن "الدعوى الجديدة أقيمت من وزارة التضامن بلا إعلان لعنوان سكني المعروف لهم، أو على مقر الأتيليه، وعلمت بها بالصدفة الأسبوع الماضي"، معبرًا عن صدمته جراء لجوء الوزارة لذلك التصرف الغريب.
الخطوة وإن كانت غير قانونية، إلا إنها معتادة في بعض القضايا الصغيرة من المحامين، وتستهدف الحصول على حكم ضد المشكو في حقه دون علمه، وهي تمثل تحايلًا قانونيًا بالطبع.
وأضاف "الجنايني"، أن القضية السابقة، التي أقامتها أيضًا وزارة التضامن، انتهت إلى حكم قضائي بأحقية الأعضاء الحاليين في مجلس إدارة الأتيليه بالاستمرار في مناصبهم وعضوياتهم، وعدم أحقية الوزارة بحل مجلس الإدارة، من قبل مفوضي مجلس الدولة.
وأوضح "الجنايني"، أن الحكم الصادر بتمكين مجلس الإدارة الحالي من العودة لمباشرة اختصاصاته، صدر من القاضي يحيى الدكروري، نائب رئيس مجلس الدولة وقتذاك، وهو القاضي الجليل الذي يعرفه أغلبية المصريين بسبب حكمه الأشهر بمصرية جزيرتي تيران وصنافير، المتنازل عنهما للمملكة العربية السعودية.
يضيف "الجنايني"، أن وزيرة التضامن التقت به الاثنين الماضي، مع مجموعة ممثلة لأعضاء أتيليه القاهرة منهم الأديبة سلوى بكر والأديب سعيد الكفراوي عقب الإعلان عن وقفات احتجاجية وندوات تضامنية مثل أتيليه الأسكندرية ضد محاولة تسليم الأتيليه، ووعدت بحل الموضوع وديًا، مؤكدًا أن الوزيرة نفت علمها بالدعوى القضائية المعروفة تمامًا. وأكد رئيس مجلس إدارة أتيليه القاهرة، ورغم استدعائها للمستشار القانوني للوزارة وتقديمه مذكرة تصالحية بوعد تقديمها لمجلس الدولة ومراعاة إعمال القانون في ضوء الحكم الذي سبق وصدر لصالح أعضاء مجلس إدارة الأتيليه، إلا أنه ظهرت مراوغات من وزارة التضامن في هذه المذكرة، كما أن خطاب التصالح حول الدعوى القضائية لم يرسل إلى المحكمة يوم الاثنين، كما وعدت الوزيرة، ما اضطره لمراجعة وكيل الوزارة في اليوم التالي، لسرعة إرساله وتضمينه نصا يفيد التنازل عن الدعوى للمحكمة، لوقف أي خطوات قانونية تهدد وجود الأتيليه عند هذا الحد.
وعقدت الجمعية العمومية لأتيليه القاهرة، مؤتمرًا، الثلاثاء الماضي، بحضور عدد من المثقفين والصحفيين والمهتمين بالشأن الثقافي المصري، لشرح موقف الإدارة من قضية حلّ الأتيليه، وعودة المقر لورثة المالكة اليهودية.
الشاعر المصري الكبير، سمير عبد الباقي، أحد رواد المسرح وأدب الأطفال، قال تعقيبًا على اتجاه وزيرة التضامن لحل الأزمة وديًا، إن حالة التربص بمقر أتيليه القاهرة لا تزال موجودة، والبيروقراطية الحكومية ليست أمينة على أتيليه القاهرة.
المشهد الثقافي المصري مملوء بالمرارة من التوجهات الحكومية، بسحق أي بادرة لنشر الوعي أو الثقافة، ومنذ أشهر قليلة، تم القبض على الخبير الحكومي السابق، والباحث الاقتصادي المرموق الدكتور عبد الخالق فاروق، على خلفية إصدار كتاب "هل مصر حقًا بلد فقير"، والقبض على صاحب المطبعة ومصادرة الكتاب.
ويناقش الكتاب مأزق الاقتصاد المصري في ظل سيطرة رأسمالية رجال الأعمال، ويتضمن الكتاب فصولا تحتوي أجوبة عن الأسئلة المثيرة للجدل حاليا مثل، كيف تدار الثروات البترولية و كم خسرت مصر من تعاقدات الغاز مع "إسرائيل" والأردن؟، وكم خسرت مصر من تعاقدات الغاز، ويناقش الموارد البشرية والكثافة السكانية، ومن يمول العاصمة الإدارية الجديدة؟ وهكذا كانت تدار ثرواتنا البترولية والغازية، وكذلك حالة بريتش بتروليم BP كنموذج حالة لفساد غير مسبوق، وإجابات حول منجم السكري كنموذج لإهدار الثروة الوطنية.
ويواجه المثقفون المصريون حالة من التجميد القهري، شملت الكتاب والباحثين والفنانين، ووصلت إلى الإعلاميين، عقب سيطرة شركة تنتمي لأجهزة سيادية على أغلب وسائل الإعلام، الشركة هي "إيجل كابيتال" للاستثمارات المالية، والتي تديرها وزيرة الاستثمار السابقة، وزوجة محافظ البنك المركزي الحالي، داليا خورشيد، وتنضوي تحت سيطرتها مجموعة "إعلام المصريين"، التي تملك أهم وسائل النشر والصحافة في مصر، وشركة "سينرجي للإنتاج الفني".
وخلال الموسم الرمضاني الحالي ركزت المجموعة، عبر أذرعها الإعلامية، للسيطرة على الشاشة الصغيرة، باستقطاب أهم نجوم الفن في مصر، وأطلقت تطبيقًا للمشاهدة المدفوعة، هو "وتش إت"، كما أعلنت خلال الأسبوع الماضي عن حصولها على حق استغلال تراث اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري "ماسبيرو"، بعد هروب المشاهدين إلى قناة مصرية كانت تعرض المسلسلات والبرامج القديمة.
التصرفات الحكومية المصرية لا تبدو على الإطلاق غريبة، سواء في تربصها أو عنفها، فالمصريون دائما ما يجابهون الأنظمة التي تقوم وتعمل وتعيش على ظل حاكم فرعون نصف إله، تعتبره المقدس الأوحد والأهم، كلماته وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه، وأفعاله سنة، توجب الاقتداء بها، ولا غيره يمكنه أن يطرح الحلول أو يرشد إلى الطريق، ولطالما دافعوا عن مكتسباتهم الثقافية والوطنية التي ترسخت فيما يخص أتيليه القاهرة منذ عام 1953 ، ولطالما واجه الأتيليه هزات ومحطات مثل تلك التي يواجهها حاليا، وكأنما هذا النموذج من الإبداع والثقافة يصبح تراكميا مكروها من رجال النظام وأركانه، ومطلوب دفنه في أقرب فرصة.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024