نقاط على الحروف
القادة المفوَّهون حراس اللغة
د. علي أكرم زعيتر
نبدأ مع الرئيس التونسي قيس سعيد فنقول، سواء اتفقت مع الرجل أم اختلفت حول العديد من القضايا السياسية والإيديولوجية، فإنك لا تستطيع أن تخفي إعجابك بأسلوبه الخطابي البديع. لم يطل الرجل على شعبه قط، إلا وقد اخترقت لغته العربية الفصيحة الألباب قبل الآذان. قد يخطب لساعات وأنت منصت إليه طربًا، فإن يخرج عليك من يخاطبك بلغة العرب الأوائل، اللغة التي تحدث بها المسلمون في صدر الإسلام ليس بالأمر العادي. إنه لأمر استثنائي يستحق منا أن نقف عنده مطولًا.
لا نود أن نقيِّم أداء الرجل خطابيًا، فهذا ليس مقصدنا. جلّ ما نريده، أن نسلط الضوء على ردّ الفعل الإيجابية التي خلفتها لغة سعيِّد الفصيحة في نفوس المحبين والمعارضين على حد سواء. فمن يتصفح وسائل التواصل الاجتماعي يلاحظ سريعًا أن خطابات الرجل المتلفزة ومداخلاته محط اهتمام الجميع، موالين ومعارضين، لا سيما في أوساط الشباب. فقد أدت لغته المُحكمة دورًا في شدّ انتباه شريحة واسعة من جيل الشباب العربي الباحث عن لغة أسلافه، في متون الكتب وعلى أفواه الخطباء والمتحدثين.
كثرٌ من يجيدون الفصحى ويخطبون بها، في المناسبات العامة والمؤتمرات العلمية لا سيما في أوساط علماء الدين، ولكن قلة من يجيدونها ويستعملونها على نحو متقن في أوساط السياسيين والحكام والقادة. فالمشهور عن الحكام العرب أنهم دائمًا ما يلحنون القول، حتى لو كانت بياناتهم وخطاباتهم معدة سلفًا ومضبوطة بإحكام. فإن تجد بين حكام الواحد وعشرين دولة عربية من يجيد الفصحى على هذا النحو، فهذا لا ينبغي أن ندعه يمر مرور الكرام من دون أن يأخذ منا بعض البحث والتحقيق.
تونس التي حفر الاستعمار الفرنسي فيها عميقًا على المستويات كافة: اللغوية، الاجتماعية، الدينية، الثقافية والبسيماتولوجية، جاء اليوم الذي يتربع على عرشها مفوّه وبليغ هو الرئيس قيس سعيد. هذا ليس بالأمر الذي يمكننا تجاهله.
قد لا نجد غرابة إذا ما خرج علينا، من أرض الكنانة أو من بلاد الشام، حاكم مفوّه، ففي هاتين البقعتين من الوطن العربي يقع أعرق مجمعين لغويين ما يزال العرب ينهلون من معينهما منذ نحو قرن، عنينا بهما مجمع القاهرة ومجمع دمشق. أما في تونس والبلاد المغاربية الأخرى، حيث للاستعمار صولات وجولات، فمن الجدير بالاهتمام أن يتبوأ مراكز القرار فيها قادة مفوهون، يجيدون فك الحرف وترويضه.
في لبنان نموذج آخر، ولكنه أكثر وضوحًا وتبلورًا. لبنان الذي اتخذت منه فرنسا منطلقًا لبث سموم التغريب الثقافي بين العرب، يخرج من بين حناياه، ومن تحت ركام حربه الأهلية فارس عربي من فوارس الزمن الجميل، ليعيد للغة العربية ألقها ورونقها الذي فقدته بين أزقة مونو وفردان وسائر أحياء ومدن سويسرا الشرق. إنه سماحة السيد حسن نصر الله الذي طالما أدت خطاباته ورسائله العربية الفصيحة دورًا في جذب قلوب الشباب العرب، ولفت أسماعهم على مدى أكثر من عقدين من الزمن.
من منا لا يذكر خطابات سماحته في الاحتفالات الحاشدة، ومن منا لا يذكر رسائله التي كانت تذاع على محطات التلفزة إبان حرب تموز، والتي كانت تأسر الألباب وتعيد بث الوعي في النفوس والأذهان؟ كانت خطاباته ورسائله آنذاك بمثابة كبسولة تعيد ترتيب الأولويات، وتبلسم جراحات الجسد العربي الذي أرهقته هزائم الـ ٤٨ والـ ٦٧، وكامب ديفيد وأوسلو.
كبريات الصحف الغربية تحدثت عن خطابات سماحة السيد وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الوعي العربي. لكن لانتفاء الغاية، فإنّ قليلًا منها من أشار إلى مقدرات سماحة السيد اللغوية، فيما استأثرت الصحف العربية، لا سيما تلك المتخصصة بالشأن اللغوي، بالحديث عن مهارات سماحته الخطابية وعن لسانه العربي المبين.
لقد شكّل سماحته وقتذاك صدمة نوعية لملايين الناطقين بالضاد. ولعل ما زاد الأمر دهشة واستغرابًا، هو تبلور هوية السيد اللغوية في سن مبكرة، فالكثير من خطبه الفصيحة التي ما تزال تلقى صدى واسعًا حتى يومنا هذه، هي تلك التي أطلقها في ريعان شبابه، ما يدل على أن نبوغه اللغوي لم يكن وليد التدارس فحسب، وإنما لقطبة مخفية لا يعرفها إلا من نهل من علوم اللغة مطولًا.
حتى خطبته المتلفزة التي كان يلقيها على الهواء مباشرة، وهو يشير إلى البارجة الحربية ساعر، وهي تغرق خلال حرب تموز المجيدة، لم تكن هي الأخرى لتمر مرور الكرام. لقد حفرت عميقًا في وجدان الشباب العربي آنذاك، وكثيرون ممن كانوا قد أشربوا فكرة موت اللغة العربية وتلاشي سحرها، يعزون للسيد الفضل في إعادة ثقتهم بلغتهم الأم.
نحن لا نريد أن نعزي للرجال الفضل في بقاء العربية، فالعربية مصانة وباقية ما بقي دستور الإسلام الخالد (القرآن الكريم)، ولكن من الجيد في مكان لو أعدنا التذكير بأهمية تداولها على ألسنة القادة والمؤثرين لما لذلك من دور في حثّ الجيل الصاعد والأجيال القادمة على التمسك بها، في ظل العولمة ومحاولات التغريب الثقافي التي يتعرض لها شبابنا على امتداد الوطن العربي.
مؤخرًا، دخل على خط رفد العربية بكبسولات المناعة الذاتية، المتحدث باسم كتائب القسام القائد أبو عبيدة، أو الملثم كما يحلو لمحبيه تسميته. لا أحد منا يعرف ملامحه أو حتى اسمه الحقيقي. أمران فقط نعرفهما عنه هما: أداؤه اللغوي الباهر وبطولات إخوانه المجاهدين.
بلسان عربي مبين، يكاد يخلو من أي لحن، وبأسلوب خطابي فريد يعيد تذكيرنا برجالات صدر الإسلام، يطل علينا الملثم كلما دعت الحاجة، ليطرب أسماعنا، ويزفّ إلينا أخبارًا تثلج الصدور وتبرئ النفوس. بعيدًا عن التقعر والتكلف اللغوي، وبأسلوب جميل يجمع ما بين البلاغة والبساطة، يحقن القائد أبو عبيدة وريد اللغة العربية بما تحتاجه من فيتامينات ومقويات ومضادات حيوية. تهديداته التي يطلقها ضد العدو باتت تراندات يتداولها رواد الفضاء الافتراضي.
اللافت في تجربة أبي عبيدة الخطابية ليست قدرته على شدّ أسماع البالغين ولا حتى اليافعين، بل الأحداث وصغار السن أيضًا، وهنا بيت القصيد. فبصفتنا باحثين لغويين حريصين على مستقبل لغتنا الأم، نجد أن ما أسداه أبو عبيدة من خدمة للغة العربية يكاد يوازي جهود وعطاءات جيل كامل من الأساتذة والمعلمين.
ليس سهلًا أن تبرع في تقديم اللغة العربية بقالب بسيط وممتع. هذه اللغة التي تعرضت لكثير من محاولات الوأد على يد بعض المستشرقين وعدد من النخبويين المتأثرين بهم، بدعوى أنها لم تعد تفي بمقتضيات العصر، ها هي تثبت على لسان السيد حسن نصر الله، وسواه من القادة المفوهين، أنها ما تزال حاضرة بكل قوة في ميادين السياسة والحرب. إنها كعنقاء العرب، كلما مكروا لها وقتلوها عادت إلى الحياة من جديد.
حالها يشبه حال أبطال المقاومة الإسلامية وسيدهم في لبنان العام ٢٠٠٦، حينما خرجوا من تحت الأنقاض والركام وبُعثوا إلى الحياة من جديد، ليسطّروا التاريخ والحاضر والمستقبل بالطريقة التي تحلو لهم، ولا يختلف حالها عن حال أبي عبيدة وإخوانه الذين أراد لهم العالم أن يسكتوا إلى الأبد، فإذا بهم يخرجون من بين الدمار ليعيدوا رسم خريطة العالم. المشتركات بين لغة الضاد والمقاومة كثيرة، ولو أردنا أن نعددها لاحتجنا إلى مجلدات. يكفي أن نشير إلى حجم المؤامرة التي تتعرض لها كلتاهما حتى ندرك القواسم المشتركة بينهما.
على أي حال، إن جزءًا من المعركة التي تخوضها المقاومة في لبنان وفلسطين وسورية والعراق واليمن مرتبط بهوية الأمة الثقافية وبلسانها ولغتها، وبإرثها ومستقبل أبنائها. وهذا أمر يدركه العدو جيدًا؛ لذلك تجده يخصص شيئًا من وقته ومقدراته المالية للنيل من لغة الضاد عبر عدد من مراكز الأبحاث المتخصصة بقضايا الألسنية.
يكفي أن نعلم أن بين علماء الألسنية المعاصرين من يروّج للفكرة التي تقول إن العربية مشتقة من العبرية وإن الأخيرة أقرب اللغات السامية إلى اللغة السامية الأم، في حين أثبتت الاكتشافات العلمية الحديثة أن اللغة العربية تكاد تكون الأقرب بين اللغات السامية إلى اللغة السامية الأم. وذلك لعدة أسباب، أهمها: انكفاء العرب على أنفسهم في جنوب الجزيرة العربية ووسطها أحقاب طويلة من الزمن وإحجامهم عن الاختلاط مع الشعوب المجاورة ما حافظ على فرادة لغتهم، وجعلها بمعزل عمَّا يعرف بالتلاقح الثقافي، إذ إنه من المعروف في علم الألسنية أن اللغة التي يحتجب أهلها مدة الزمن ويتحاشون التلاقح الثقافي مع الشعوب الأخرى تبقى لغتهم أقل عرضة للتغيير والتبدل.
نحن، إذ نتناول نماذج، مثل سماحة السيد حسن نصر الله والمتحدث باسم كتائب القسام أبي عبيدة والرئيس التونسي قيس سعيد، للدلالة على أهمية إجادة القادة والمؤثرين وصناع الرأي للعربية الفصحى في حثّ الأجيال الصاعدة على التمسك بهذه اللغة الجليلة، فإننا لا نروم من ذلك حصر بحثنا في هذه الشخصيات الثلاث، ذلك أن هناك قادة آخرين على قدر عالٍ من الفصاحة والبلاغة، لا ينبغي أن يفوتنا ذكرهم، أو أن نتجاهلهم، منهم على سبيل المثال لا الحصر، السيد عبد الملك الحوثي، والمتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية اللواء يحيى سريع، والسيد هاشم الحيدري في العراق وغيرهم الكثير.
فسماحة السيد عبد الملك الحوثي الذي اشتهر بخطبه العصماء والبليغة، لا تقل عطاءاته وتقديماته على مذبح اللغة عن عطاءات وتقديمات سواه. الشاب الثلاثيني استطاع، خلال مدة وجيزة، أن يثبت حضوره على الساحة اللغوية، حتى إننا نستطيع أن نقول بكل ثقة إن سماحته أرسى مدرسة خاصة امتد تأثيرها إلى خارج اليمن.
من يراقب أداء سماحة السيد الحوثي على المستوى اللغوي، يصل إلى قناعة تامة مفادها إن لغة القائد السليمة ــ أيما قائد ــ وبراعته في انتقاء المفردات، وقدرته على الاستطراد والاستفاضة وحتى الإيجاز في المواضع التي تتطلّب الإيجاز، إنما يعكس جانبًا مهمًا من شخصيته الريادية، ولعله يعطي أيضًا لمحة خاطفة عن مدى إلمامه بقضايا الحكم وتسيير شؤون البلاد والعباد، فضلًا عن البعد المعرفي الذي يكتنزه.
لطالما كانت بلاغة أهل اليمن محط اهتمام علماء اللغة قديمًا وحديثًا، فمن ينصت لأحاديث اليمنيين اليومية، يلاحظ مدى تأثر المحكية اليمنية بالفصحى، ومدى احتفاظها بخصائص وموروثات اللغة المعيارية. بالطبع، نحن إذ نشير إلى ذلك، لا نود أن ندخل في النقاش القديم الجديد الذي طالما أثير بين علماء اللغة، والذي يبدأ بالسؤال الآتي: أي المحكيات العربية المعاصرة أقرب إلى الفصحى؟ ولا ينتهي عند النتيجة المعروفة: إن لكل محكية من محكيات العرب المعاصرة مستوى معين من الارتباط باللغة المعيارية. جلّ ما نريد قوله، هو أن لليمنيين، كما لقائدهم، بصمة خاصة تتمظهر كلما نطق اليماني بلسان عربي مبين.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024