نقاط على الحروف
هوامش على دفتر الأسرى
أحمد فؤاد
انهيار أي أمة أو شعب يحدث تلقائيًا حين تتصور أنها تعيش في جزيرة نائية، منفصلةً عمّا يدور حولها، وتبدأ بتحصين موقعها وفرض قيود وجدارن العزلة على نفسها وبنفسها، في آن. يبدأ السقوط فعليًا حين تنسى أن عليها أن تنخرط في معاركها الضرورية، ليس دفاعًا عن شقيق أو أخ، بل دفعًا للشر عن نفسها أولًا، ومن البديهي –اليوم واليوم بالذات- أن قضية فلسطين ستكون فاصلة لشكل العالم العربي، ومعركة "طوفان الأقصى" الجارية ستحدد مصير العروبة، ومن بعدها عالم الشرق كله.
وسط الصمود الأسطوري لكلّ فلسطيني، والذي أعجز كيان العدو عن تحقيق أية صورة يتشبث بها لتلفيق نصر، حتى وإن كان موجهًا لقطعان داخله فقط، ذهب جيش العدو إلى الطريقة الوحيدة التي يفهمها ويجيدها، القتل العشوائي الواسع، في محاولة فرض ما يتصوّر ضباطه وقادته إنه عقاب جماعي للمقاومة وللناس معًا، وردع بالجرائم المنهجية فائقة الوحشية والهمجية لأي شعب عربي قد يقرر أن يختار هذا الطريق وهذه الراية.
وفي قلب الجرائم البشعة والأكثر ترويعًا التي ارتكبها ويرتكبها كيان العدو، تأتي "قصة الأسرى"، لتروي جانبًا آخر من إثمهم وبغيهم، وسيادة الظلام والجور على عالم اليوم وسياسة اليوم، بدفع من هيمنة الولايات المتحدة ويدها القائمة وراء كل حكاياتنا –العربية- الأليمة، ووفقًا لتقرير صادر من "نادي الأسير الفلسطيني"، يوم الأحد 3 كانون الأول الجاري. فقد امتدت يد الجرم لتعتقل 3480 فلسطينيًا في أرضنا المحتلة، منذ بداية طوفان الأقصى المبارك في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ليضافوا إلى سجل الآلام الذي يضم 4700 إنسان، وفقًا لبيانات النادي.
من أكثر القصص المأساوية في الأقبية المظلمة لسجون العدو، قصة الشاب أحمد مناصرة، ابن مدينة القدس الشريف، والتي أعيدت إلى دائرة الضوء مع رفض العدو الإفراج عنه ضمن عملية التبادل التي تمت الأسبوع الماضي. وهي قصة تفضح عملية "البرمجة" الإعلامية الممنهجة لعقولنا، أن نبحث عن القصص التي يصدّرها لنا العدو، ثم أن نقرأ ما يريده لنا أن نقرأه، طفل مقدسي أسير ومصاب، يخضع لأقصى درجات العنف والتسلط من جلاديه القساة، ومن ثم، تمر كما مر غيرها، ألم يبهت مع السنوات، وإثم نسيان جديد يضاف إلى قائمة آثامنا بحق فلسطين.
ليست هذه قصة أحمد مناصرة، بالنسبة إلينا. أحمد مناصرة هو الطفل العربي الذي انتصر في قيود أسره الحديدية الثقيلة على سجانيه، ولم يستطع هذا الكيان بكل جبروته وقوته أن يكسر فيه إرادة الحياة، ولم يخصم من إيمانه بقضيته ونفسه سنوات الأسر الطويلة، بكل ما فيها من انتهاك لأي معنى إنساني.
الكثير يتذكر الطفل ذا الثلاثة عشر عامًا الذي صمد في وجه محققه الشرس وهو يردد كلمة "مش متذكر، بقولك مش متذكر"، وجعل الله لنا في وجهه المطمئن آية في الصبر والقوة، أحمد مناصرة اعتقل في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، في أوج اشتعال "انتفاضة القدس"، بتهمة عملية طعن افتراضية، فقتلت قوات العدو المتحفزة ابن عمه حسن، بينما اعتقلت أحمد مناصرة الذي كان يرقد على الأرض مغطى بدمه.
قضاء الكيان الذي لا يعرف هو الآخر الرحمة، ولا ينتمي للإنسانية بصلة، حكم على الطفل الجريح بالسجن 12 عامًا، ثم عاد وخففها إلى 9 سنوات، شاب فيها الطفل وكبر داخل سجن الحقد والإجرام، وبين جدران أربعة لزنزانة عزل انفرادي دائم، لم يقطعها سوى مرة وحيدة التقى فيها بأمه خلال جلسات محاكمته الهزلية، واستمر فيه مسلسل إصرار العدو على كسر إرادة الفتى وعائلته، وحجب شرطي فظ بجسده رؤية أحمد لأمه، ورفض حتى السماح لها بمصافحته، وسمح لها بملامسة أصبع واحد من يده فقط!
اليوم قرر العالم -الذي يسميه بعضنا إفكًا وزورًا الحر- أن ينقض على كل من يذكر سيرة أحمد مناصرة، أو يعرض قضيته، حملات الملاحقة والاتهامات والتهديدات قائمة لكل من يحاول أن يعيد قضيته إلى الواجهة. والرغبة الأكيدة لدى العدو هي عدم السماح بتحويلها إلى معركة، هو يريدها كما صدرها إلينا في المرة الأولى، مسلسل قهر وإذلال، يدفع الأمة كلها إلى اليأس.
يأبى الإيمان والشرف وتأبى الكرامة أن نتعامل مع هذه الجريمة بمنطق الأرقام الجامدة التي تجرد الوقائع من هولها، وتبرر ابتلاعها وتمريرها كأي شيء آخر. فهناك الألوف من أهلنا ألقى بهم العدو في معتقلاته المخيفة، وأطبق عليهم قضبانه وقيوده، وفي كل قصة –وحدها- ما فيها من ملح يوضع على جروح مفتوحة، وما تزال تنزف دامية، اعتقال عائل أسرة يساوي أن الأسرة بالكامل صارت تعيش في سجن من نوع خاص، اعتقال طفل يوازي قتلًا يوميًا مستمرًا لأهله، اعتقال امرأة - وحده ومن دون الحديث عن الانتهاكات النفسية والجسدية في زنازين العدو- هو أمر مرعب ويعذب عائلات بأكملها، من دون رحمة.
إذًا؛ المطلوب رفع الحديث عن الأسرى وعن المعتقلين وعن ضحايا المحرقة الصهيو-أميركية إلى شأن يومي، ليس حديثًا عن قصصهم الملهمة بغرض التباكي والحصول على صك غفران من النفس، بل بكاءً يستحضر كراهية العدو والولايات المتحدة وأذنابهما العرب، ويثبتها في القلوب، رفض مطلق لهذا الشر وإدانته، أن يكون حزنًا يبعث على التصميم، لا الاستسلام، هكذا نبكي بصدق وإخلاص.
..
ليس من قبيل التزيد القول بأنّ السياسات الرسمية العربية قد أوصلت نفسها وأوصلتنا إلى حال من العجز الكامل، وفوق ذلك، تكفلت بتعرية الأمة كلها أمام غيرها، عدوًا وصديقًا، في واقع صار مثيرًا للشفقة والاشمئزاز في آن، النظم العربية فاقدة الارتباط بشعوبها وقضاياها ومصالحها الإستراتيجية العليا قررت أن تفرط في سلاحها، وأن تسقط طواعية دروعها، وحتى تبيع ملابسها، وقبل أي شيء، بدّدت كل فرصة ومعنى للثقة في الأوطان، لكن يشاء الله أن تعيد فلسطين وعبر "طوفان الأقصى" إلى الأمة بوصلتها الوحيدة الحقيقية، وهي معركة كما قال سماحة السيد حسن نصر الله، سيدنا وسيد المقاومة: "معركة دينية ومعركة أخلاقية ومعركة إنسانية"، هي معركة تبدأ وتستهدف تحرير الإنسان العربي، وتحويل قضية فلسطين إلى فرصة نور، لا عبء، كما يقول لسان طغاة العرب.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024