نقاط على الحروف
الخلاف المتفاقم ما بين اليسار والدولة في فرنسا
عبير بسّام
ارتفعت وتيرة المظاهرات في فرنسا منذ 22/ 10 بعد أن رفع الحظر القانوني على المظاهرات المتضامنه مع غزة وفلسطين من قبل القضاء الفرنسي. وقادت المنظمات اليسارية المظاهرات وبكل جرأة، والتي وقفت ضد القرار الرسمي الفرنسي بالوقوف إلى جانب الكيان الصهيوني تحت ذريعة الدفاع عن النفس، ذريعة لم تعد مقبولة لدى الفرنسيين، وأثبت ذلك المظاهرات التي انطلقت والتي كانت بمشاركة الآلاف. مظاهرات انطلقت وعبرت عن خلاف مبدئي حول القضية الفلسطينية وأحقية القتال من أجل الحق والسلام للفلسطينيين في أرضهم.
يبدو أن العزلة التي تعيشها أمريكا اليوم، والتي تحدث السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير ستمتد لتلحق الحكومة الفرنسية بسيدها بسبب الضغط الشعبي الذي يجتاح البلاد. هذه التباينات ما بين المتظاهرين من أجل فلسطين ومعظمهم من اليسار الفرنسي سيكون فيها مقتل ماكرون السياسي إذا ما استمرت وتيرة المظاهرات بارتفاع في فرنسا، خاصة وأن المظاهرات التي دعت لها الحكومة الفرنسية والتي أضاءت برج إيفل بعلم الصهاينة، تقف متقابلة مع مظاهرات المعارضين للحرب وتهتف بأن "اسرائيل قاتلة، وماكرون متواطئ".
أمام استمرار خروج المظاهرات في فرنسا، خطر لماكرون للحظات استيعاب منتقديه في الشوارع الفرنسية عبر إذاعة الـ BBC البريطانية منذ أيام قليلة، اذ صرح بأنه لا يوجد أي شرعية لقتل الأطفال والنساء وكبار السن، وأن هذا الأمر "يزعج" دول المنطقة. وفي جواب على سؤال حول انتهاك الكيان للقانون الدولي، لم تكن إجابة ماكرون بما يقتضيه الموقف، اذ أجاب "بأنه ليس قاضياً". ثم كان على ماكرون بعد ذلك تبرير موقفه بعد "الضجة"، التي أثارها تصريحه في دولة الكيان، ولكنه لم يثبت طويلاً عند موقفه بعد إعلان الدولة العبرية توصيفاته بأنها مؤلمة ومحزنة، فاضطر لإعادة حساباته وتحدث مع نظيره الصهيوني ومع بيني غانتس ليعود فيؤكد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
تردد ماكرون وتراجعه يعكس حجم الأزمة التي تمر بها الرئاسة والحكومة الفرنسية خاصة وأن اليسار الفرنسي لا يفتأ ينتقد مواقف فرنسا الرسمية، التي أخرجها ماكرون عن السياق التاريخي التي عرفت فيه في أيام الرؤساء شارل ديغول وفرانسوا ميتران وجاك شيراك، والأخير كان من أبرز معارضي الحرب على العراق وجميعهم وقفوا معارضين لوحشية الكيان الصهيوني، وطالبوا بحل عادل للقضية الفلسطينية. واليوم يعود اليسار الفرنسي ليطالب بأخذ موقف جدية لمنع الانتهاكات الصهيونية ووقف المجازر في غزة وبالدفع نحو إقامة سلام شامل وعادل على أساس حل الدولتين وبناء على مقررات الأمم المتحدة. كما يطالب اليسار بتنفيذ قوانين جنيف في الحرب وتحييد المدنيين والمستشفيات والمناطق المدنية. ويرى اليسار أن خروج ماكرون عن هذه الثوابت هو خروج فرنسي عن دوره في العالم وتسليم رقبته للولايات المتحدة.
أول ما يدعم موقف اليسار في فرنسا، هي القرارات التي رفضها مجلس الدولة والمتعلقة "بالحظر الممنهج" للمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، كما رفض القضاء الفرنسي في محكمة الشؤون الإدارية وقف المظاهرات المؤيدة لغزة، وأوقف تنفيذ قرار وزارة الداخلية بترحيل الناشطة الفلسطينية العضو في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مريم أبو دقة، بعد خمسة أيام من صدوره قرار الطرد بحقها في 21 تشرين الأول/ أكتوبر، ووضعت أبو دقة حينها تحت الإقامة الجبرية. واعتبر القاضي أن قرار الإقامة الجبرية قد "انتهك بشكل خطير ومخالف للقانون حق مريم أبو دقة في حرية التعبير وحرية الذهاب والإياب". مع العلم أن كل من الدولة المارقة والاتحاد الأوروبي يصنفون الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كما حماس منظمة إرهابية، واعتبر القرار صفعة للحكومة الفرنسية. وقالت محامية أبو دقة، جولي غونيديك، لوكالة الأنباء الفرنسية: "أنا سعيدة بهذا القرار الذي شكل صفعة للحكومة التي سعت لاستخدام تدبير بوليسي بحق أجانب لتقييد الخطاب النقدي". وأضافت: "إنه انتصار حقيقي ضد تجريم أي دعم للشعب الفلسطيني وهو ما نشهده منذ أيام عدة".
إن تظافر الجهود ما بين القضاء الفرنسي الذي يصر على حماية الحريات الشخصية والفردية من أجل حماية حرية التعبير. ومخالفة القرارات القضائية ستضع الحكومة الفرنسية بالتأكيد في مواجهة شعبها. إن الحكومة الحالية، هي حكومة يمكن تصنيفها على أنها ممثل للراسمالية الحديثة المتوحشة وهي مرتبطة بالنظام الرأسمالي الحديث الذي تعد سياسات الولايات المتحدة والصهيونية العالمية جزءاً لا يتجزأ منه.
وبناء على ما سبق، يمكننا فهم أسباب استجواب النائب من حزب "فرنسا الأبية" اليساري، والتي ظهرت على منصة إكس، ماتيلد بانو رئيسة الكتلة النيابية لحزب فرنسا الأبية، ظهرت في استجواب مجلس النواب للحكومة الفرنسية حول دعمها الحرب على غزة في 11 تشرين الأول/ أكتوبر، وانتقدت موقف رئيسة وزراء فرنسا، إليزابيث بورن، بشأن مشاركة فرنسيين في القتال إلى جانب "الجيش الإسرائيلي"، عن طريق التطوع المدني وعبر إغرائهم "بالتخفيضات الضريبة"، وقالت أنهم متورطون في "الأعمال غير القانونية للجيش الإسرائيلي"، وتساءلت حول أسباب صمت فرنسا عن ذلك. القانون الفرنسي يسمح لمزدوجي الجنسية بالخدمة العسكرية في البلد الثاني، ولكن وبحسب القانون الفرنسي فإن المتورطين في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية يُحَاكَمُون حين يعودون، وهذا ما حدث في إدانة رقيب في الجيش الصهيوني في العام 2017، إيلور أزاريت، فقد أدانته المحكمة العسكرية بعد أن أثبتت الصور أنه أطلق النار على الفلسطيني عبد الله الفتاح ذي الـ 21 عاماً فأصابه في رأسه. وبحسب الأستاذ في التاريخ توماس فيسكوفي لصحيفة ليبراسيون، أن من يفعل ذلك في غزة سيكون متواطئا في هذه المظالم. وهذه إحدى المشاكل التي تنتظر فرنسا بعد وقف الحرب على غزة.
ويواجه حزب "فرنسا الأبية" اليساري، ورئيسه جان لوك ملانشون، منذ 12 تشرين الأول/ اكتوبر، حملة شرسة جداً بسبب رفضه وسم حركة حماس بالإرهابية ولأنه لم يدن هجوم المقاومة في "طوفان الاقصى" على غلاف غزة. والذي قال إن فرنسا باتت بلداً قامعاً للحريات. وهاجمت رئيسة الوزراء الفرنسية بورن ميلانشون وقالت: "أنه يساوي بين حركة إرهابية ودولة ديمقراطية". حزب فرنسا الأبيه يتعرض لهجوم من قبل الإشتراكيين "اليساريون" أنفسهم.
إن الخلافات لم تعد محصورة بين اليسار واليمين فقط، بل إن هناك خلافات في داخل اليسار نفسه، لأن حزب ميلانشو اختار الترشح وحده في الانتخابات القادمة وبلوائح فردية وليس ضمن تحالف يساري. وتحييد "فرنسا الأبية" نفسها عن باقي الأحزاب اليسارية في الواقع له علاقة بموقف عمدة بلدية باريس آن إيدالغو من الحزب الإشتراكي الداعم للصهاينة. مع العلم أن منع التظاهر في باريس لم يصدر عن بلديتها بل عن وزارة الداخلية ومن ثم الشرطة الفرنسية، غير أن إيدالغو المتعاطفة مع الصهيونية باتت تعتبر ان التحالف مع ميلانشون وحزبه هو تحالف غير موفق، بسبب تصريحات ميلانشون الداعمة لحماس والمقاومة الفلسطينية والتي ادانت المجازر الصهيونية.
ميلانشون، الذي يرى ان العنف يعيد إنتاج نفسه، ولذا فإن حماس لم تخرج من العدم، بل من العنف الممارس ضدها من قبل "الإسرائيليين". كما أنه أكد أن: "تقديم الخدمة للمجتمع اليهودي في فرنسا، لا يمكن أن يكون من خلال التحالف مع الولايات المتحدة المتحالفة مع حكومة اليمين الأقصى في إسرائيل"، وأن: "دور فرنسا هو أن تكون نقطة ارتكاز ضد عبثية التصعيد". وبالنسبة له أن ما يجب فعله هو فرض وقف إطلاق النار وعلى فرنسا أن تعمل على ذلك بكل قوتها الدبلوماسية. ورأى ميلانشون أن موقف بورن الموافق على المجازر في غزة هو عار عليها، وأن "فرنسا لا تتحدث على هذا النوع"، وطالب بتنفيذ القرارات الدولية ووقف الحرب وعدم دعمها وتطبيق حل الدولتين ليعيش الجميع بسلام.
بالتأكيد لن يتوقف التباين الفرنسي ما بين مؤيدي الفلسطينيين والقضية الفلسطينية ومؤيدين للصهاينة قريباً. وامتد اليوم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، في المواقف المتباينة للفنانين الفرنسيين. اذ يقوم ديلان ثيري، الذي هٌدد بفقد حساباته الخاصة على كل من الفيس بوك وسناب شات وتيك توك، إن لم يوقف نشر فيديوهاته الداعمة للفلسطينيين والمنددة بالجرائم الصهيونية، فيما هدد المغني إنريكو ماسياس اليهودي الجزائري الأصل بتصفية أعضاء حركة "فرنسا الأبية" اليسارية بسبب مواقفها من العدوان الصهيوني على غزة، وقال حرفياً في برنامج على قناة CNews الفرنسية لمضيفه، "عندما أسمع اليسار المتطرف يستسلم في مواجهة هذا الرعب، حسناً أنت تجبرني على قول ما لا أرغب في قوله: علينا أن نصفي هؤلاء الأشخاص".
وضعت فرنسا منذ بدء عملية طوفان الأقصى جميع المعابد والمراكز اليهودية تحت الحراسة المشددة خوفاً من تعرضها للهجوم من قبل مناصري القضية الفلسطينية، ومن المتظاهرين من أجل دعم غزة. ويقوم الإعلام الفرنسي بنشر تخوفات اليهود وبشكل مبتذل من الذين يخرجون مع داعمي الصهيونية في فلسطين في مظاهرات متقابلة معهم. لم يهدد أي من مؤيدي فلسطين حتى اليوم بالقتل كما هدد ماسياس ملانشون وأعضاء حزب فرنسا الأبية بالقتل، ولم يهاجم متظاهري الحق الفلسطيني، المتظاهرين من الطرف الآخر حول العالم، ولكن الخلاف المتفاقم ما بين هؤلاء وهؤلاء في جميع أنحاء أوروبا وفي فرنسا بالذات بات كبيراً، ويبدو أن ماكرون وحكومته قد أدخلت البلاد في نفق من الصراع ستظهر عظيم نتائجه الكبرى في المرحلة القادمة، وخاصة بعد انتصار غزة.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024