نقاط على الحروف
الملاعب الخضراء تنتصر لغزة
عبير بسّام
بعد أن يأس عالمنا العربي وهو يتظاهر ويقف صارخاً أمام السفارات الغربية من اجل نصرة غزة محاولاً تغيير الرأي العام العالمي في عملية تبدو شبه مستحيلة مع انحياز المؤسسات الإعلامية الغربية وقيادات دول الغرب للإحتلال الصهيوني، لعبت الملاعب الخضراء ومنصات اللاعبين للتواصل الإجتماعي دوراً استثنائياً في تغيير المواقف الشعبية حول العالم، دوراً لا يمكننا أن ننكر تأثيره في معركة الوعي الجمعي من أجل نصرة القضية الفلسطينية، والذي علينا أن نخشى أن يتم تقييده في السنين القادمة بعد أن بان أثره في تحريك الجماهير في الملاعب وخارجها عبر تقييد الاعبين بواسطة العقود الموقعة معهم. أثر الملاعب يمكن مقاربته عبر خارطتين رئيسيتين: الملاعب الغربية والمطبعة، والملاعب العربية والمتضامنة مع الشعب العربي الفلسطيني، والتي تجلت خلال معركة طوفان الأقصى.
لفت خلال الشهر الماضي دأب الملاعب المطبعة، كما المغرب والإمارات، على منع دخول الأعلام الفلسطينية إليها في حين كانت الملاعب الغربية غير قادرة على السير بهذه السياسة بنفس الصرامة التي لعبها المطبعون. لكن بعض الدول التي أقامت معاهدات السلام مع العدو الصهيوني، لم تستطع إلا أن تبدي تعاطفها مع غزة عبر الملاعب، تنفيساً للإحتقان الشعبي كما حدث في مصر. ومع ذلك، كانت الملاعب الجزائرية والتونسية والمصرية وابطالها السباقين في دعم غزة. لقد ابتدأت حملة دعم عملية طوفان الأقصى في هذه الدول الثلاث منذ اليوم الأول.
ملاعب مصر كانت ملفتة فقد قام أنصار فريق الأهلي خلال مباراته مع فريق الإسماعيلي في إطار الدوري المصري الممتاز في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى بتحية أهل غزة ورفع الأعلام الفلسطينية والهتاف لغزة وللمسجد الأقصى. ثم عاد الأهلي وأعلن أن عوائد مباراته، في 24/10، مع فريق سيمبا التنزاني ضمن الدوري الأفريقي التي حدد موعدها بعد اسبوع من مباراة الدوري المصري، ستذهب لنصرة أهل غزة، وطلب من المناصرين ارتداء الشارات السوداء حداداً على أرواح شهداءها. وهتفت الجماهير المصرية لفلسطين وللمسجد الأقصى قبل وخلال المباراتين. كما قام الفريق المصري بالتبرع بالدم لجرحى غزة.
جاءت عملية طوفان أقصى متزامنة مع احتفالات مصر بنصر السادس من تشرين الأول/ اكتوبر، وكان هناك الكثير من التهليل على الإعلام المصري لعظمة المناسبة، ولذلك فإن اندفاعة الشعب العربي في مصر لم يكن من الممكن الوقوف في وجهها كما حدث في عدد من الدول العربية المطبعة، وخاصة في الإمارات والبحرين، أوشبه المطبعة كما في العربية السعودية، وهي الدول الثلاث الوحيدة التي لم تشهد المظاهرات المتضامنة مع فلسطين وغزة. وفي حين لم تستطع بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا التي أعلنت عدم السماح بالتظاهرات وحمل الأعلام الفلسطينية وفرض الغرامات والسجن على كل من يناصر فلسطين، إلا أن ملاعبها وشعوبها لم يكن من الممكن وقف طوفانها في الشوارع وخاصة بعد مجزرة مستشفى المعمدان.
مهما تكن المواقف الرسمية العربية في الدول المطبعة، أو تلك التي وقعت اتفاقيات السلام مع العدو الصهيوني، أو التي في طريقها للقيام بذلك، فإن الملاعب كانت الحساس الأهم في قياس المزاج في الشارع العربي، حتى أن الملاعب كانت في بعض الأوقات المتنفس الطبيعي أمام الجماهير العربية لتقول كلمتها بشكل جماعي، إن لم تكن قادرة على فعل ذلك حتى في وسائل التواصل الإجتماعي، بسبب الملاحقة كما يحدث في الإمارات العربية المتحدة أو في البحرين. ومع ذلك فإن المعلقين الرياضيين استطاعوا لفت النظر إلى فلسطين من خلال تعليقات تركوها على منصة X [اكس] وإن كان يعملون مع قنوات إماراتية مثل المعلقين علي سعيد الكعبي وفارس عوض في الإمارات.
قد كتب الكعبي، وهو معلق على قنوات دبي الرياضية والمتعاون مع قنوات SSC السعودية، على حسابه على اكس "اللهم عونك ولطفك ونصرك لإخواننا المستضعفين في غزة". وكتب عوض، المعلق في قنوات SSC السعودية: "اللهم استودعناك فلسطين وأهلنا فيها، أرضها وسماءها، شبابها ونساءها وأطفالها، واحفظ إخواننا فيها بحفظك وأيدهم بنصرك، واكتب لهم الخير والأمن والعدل والعزة والسلام". ووصل أعداد المتفاعلين مع عوض أكثر من مليون ونصف، التعليقات محدودة ولكن هناك من اعاد التغريدتين إلى أكثر من 50 ألف مرة. هذا التفاعل يمكن قراءته من باب المشاعر الحقيقية لجمهور الرياضة العربي، والذي عادة لا يهتم كثيراً بأخبار السياسة، صحيح أنه ليس هناك دراسات محددة حول الفئات العمرية التي تتابع القنوات الرياضية وبالذات مباريات كرة القدم في العالم العربي، ولكن لا يمكن أن نستهين بعدد الشباب الكبير والمتابع لمباريات كرة القدم. وهذا مثال بسيط حول مواقف معلقين من دول مطبعة مثل الإمارات.
بالتأكيد لم يكن هذان المعلقين هما الوحيدان اللذان تضامنا مع غزة، اذ افتتح المعلق عصام الشوالي على قنوات بي إن سبورت خلال مباريات الدوري الإنكليزي، مباراة مانشستر سيتي وأرسنال بالإشادة بضربات المقاومة قائلاً: "حدثوك عن القوة فكان وهم، وعن تكنولوجيا متطورة فكان وهم، وعن جيش لا يقهر فكان وهم". و"كلموك عن بارليف فكان وهم، حدثوك عن حدود يستحيل اختراقها، ألا فهمتم أنهم مجرد بالونة وهم". وأما المعلق العماني على شبكة قنوات الكأس القطرية وبي إن سبورت، فقد افتتح مباراة برايتون وليفربول بالدعاء لفلسطين وأهلها، وأودعهما من "لا تضيع عده الودائع".
في اليوم التالي لطوفان الأقصى، أي في 8 تشرين الأول/ اكتوبر، لعب فريق الترجي التونسي مع منافسه المنستيري، نسبة لمدينة المنستير التونسية، وضمن الجولة الخامسة من الدوري التونسي، وأنشد جمهور الترجي لفلسطين، طالبت الأنشودة فتح الحدود، حتى يرى العالم، "النصر كيف بيصير". ما قام به جمهوري الترجي ومعه المنستيري، هو المثال الحي على موقف الملاعب العربية المتضامنة مع فلسطين شعباً ودولة. فالرئيس قيس السعيد ومنذ أن ألقى خطاب القسم، أعلن موقف تونس المتضامن مع الشعب الفلسطيني، وغير بشكل جذري ما كانت حكومة الغنوشي تتآمر عليه من المضي في عملية التطبيع التي ابتدأت باجتياح الدول العربية في العام 2020.
أعاد الترجي وجمهوره المشهد في 26 تشرين الأول/ أكتوبر خلال الدوري الإفريقي ضمن ربع نهائي دوري الإياب مع فريق مازيمبي الكونغولي، وحمل جمهوره لافتة عملاقة كتب عليها فلسطين، ورسم صورة مقاوم يلتفح بالكوفية الفلسطينية، وانتشرت أعلام فلسطين في المدرجات، وكتب على اللوحة الإلكترونية "يا خيل الله اركبي.. وبالجنة أبشري". يلقب نادي الترجي ب"غول أفريقيا"، بعد فوزه بكأس الكؤوس الأفريقية في العام 1998، أي أن عشاق الكرة في جميع الملاعب الإفريقية والعربية والعالمية كانوا يشاهدون المباراة ويتفاعلون مع جمهور الترجي. ومن المستحيل ان يمر المشهد مرور الكرام، فالمشهد لمن يتابع ما يحدث في فلسطين هو مشهد ملكي وعظيم، ولمن لا يتابع، هو مثير للفضول وتثقيفي ومثير للحمية. منع جمهور الترجي من ادخال الرايات الفلسطينية إلى ملعب محمد الخامس في المغرب خلال الدور النصف النهائي الإفريقي. ولكن مشاهد الشرطة المغربية وهي تنتزع الأعلام الفلسطينية من أيدي المشجعين لم تغب عن الشاشات والكاميرات، وهذا ما استفز حتى المغاربة الذين خرجوا في تظاهرات، لم يستطع أحد منعها.
أخذ الجمهور العربي على محمد صلاح، الذي يلعب مع نادي ليفربول، تأخره في اللحاق بركب رفاقه العرب في الفرق الأوروبية العالمية الذين سبقوه، وطالبه متابعوه على وسائل التواصل الإجتماعي بموقف صريح، خاصة بعد إعلان اللاعب المصري محمد النني في فريق "أرسنال" موقفه صراحة بدعم اهل غزة. في 19 تشرين الأول/ أكتوبر، وبعد مجزرة مشفى المعمدان، نشر صلاح فيديو قال فيه: "يجب أن تتوقف المجازر، فالعائلات تتقطع أواصرها، يجب السماح بتقديم الدعم الإنساني لغزة فوراً، ويمر سكان غزة بأوضاع مزرية، بالأمس شاهدنا مشاهد مروعة في المستشفى. يحتاج أهل غزة إلى الغذاء والماء فورأ، يجب على قادة العالم التكاتف معاً من اجل منع وقوع المزيد من مذابح البرياء، ويجب ان تسود الإنسانية". بعد ساعات على نشر الفيديو، كان هناك 149 مليون مشاهد للفيديو تفاعلوا مع قائد المنتخب المصري ونجم فريق ليفربول، ووصل المقطع إلى 116,6 مشاهدة على تويتر و30 مليون على انستغرام و2,9 مليون على الفيس بوك. استخدم صلاح اسلوباً ذكياً في مقاربة الموضوع، لأنه عرف كيف يلعب على وتر الأوروبيين، عندما ابتدأ الحديث عن الوحشية التي تدمي القلوب ووتيرة العنف المتصاعد، ولكنه أوصل الكلام وبكل وضوح وضمن سلسلة متواصلة ودون فواصل. مع العلم أن هذه ليست المرة الأولى التي يتضامن بها صلاح مع غزة، وقد نشر في 21 أيار/ مايو صورة له أمام المسجد الأقصى، وكتب معلقاً: "أدعو جميع قادة العالم، بما في ذلك البلد الذي هو موطن لي طوال السنوات الأربع الماضية، إلى بذل كل ما في وسعهم للتأكد من توقف العنف وقتل الأبرياء على الفور"، "لقد طفح الكيل".
يجب أن لا ننسى أن هؤلاء اللاعبين، يوقعون عقود ملزمة تخضع تصريحاتهم للرقابة، وقد يتعرضون للتعنيف والعقوبات من قبل ناديهم في حال المخالفة، ويتم إجلاسهم على مقعد الإحتياط ويحرمون من تكريمات هامة مثل جائزة الكرة الذهبية، وهذا تماماً ما شهدناه مع البطل الجزائري رياض محرز. محرز نجم مانشستر سيتي، الذي قاد فريقه نحو الفوز بكأس الإتحاد الإنكليزي. كان محرز من أوائل الرياضيين الذين اتخذوا موقفاً ثابتاً مما يحدث في غزة، ودخل تتويج مانشستر سيتي في 8 تشرين الأول، وهو يرتدي العلم الفلسطيني، وتعرض لإنتقاد صاحب ناديه منصور بن زايد "الإماراتي" وطلب منه عدم حمل العلم الفلسطيني خلال مباراة مصر والجزائر في الإمارات، ولكنه رفض ذلك، مع العلم أن الشرطة الإماراتية أخرجت شابة من المشجعين لأنها كانت تضع العلم الفلسطيني على ظهرها خلال المباراة ذاتها. ومن مظاهر التعنيف: إلحاح وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، بسحب الجنسية الفرنسية من نجم الكرة الفرنسي ذو الأصول الجزائرية، كريم بنزيمة، واتهمه بالإرتباط بالإخوان المسلمين، بعد إعلان بنزيمة على مواقع التواصل الإجتماعي دعمه لسكان غزة وشجبه قصفها من قبل الصهاينة في 26 الشهر الماضي. ومن هنا يمكننا أن نفهم أهمية الموقف الذي يلعبه أبطال الملاعب في لفت نظر جماهير الكرة إلى قضية فلسطين ليس في بلاد العرب فحسب بل في بلاد الغرب أيضاً.
يجب أن نعلم أن ما يحدث هو عملية تراكمية تدفع نحو دعم غزة، فلا مجال هنا لذكر جميع الرياضيين من الملاعب الخضراء ناهيك عن باقي الملاعب الرياضية، والذين تضامنوا مع غزة ويبدو أن كرة الثلج تتراكم وتكبر، وقد كبرت معها المظاهرات حول العالم، ولن يكون آخرها موقف المهاجم الهولندي، ذو الأصول المغربية، أنور الغازي، منذ يومين، الذي نفى اعتذاره لنادي ماينر الألماني، الذي يلعب معه، عما نشره على صفحاته من تضامن مع قطاع غزة وفلسطين، ودعا إلى وقف العدوان على غزة. ولكنه اضطر، بحسب عربي بوست، إلى سحب منشوره "من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر". فأوقف ماينر الغازي عن اللعب لأن موقفه من الصراع غير مقبول، في 17 الشهر الماضي، ثم أعاده للعب في صفوفه بعد أسبوع من وقفه.
هذه العملية التراكمية ترفع عديد المتضامنين للوقوف إلى جانب فلسطين، ومنهم نادي سيلتيك الاسكتلندي، وتضامن الملاعب الكويتية والعمانية ومعلقوها على جميع القنوات الرياضية، وما قاله هؤلاء في التضامن مع فلسطين تقشعر له الأبدان. إنها معركة الوعي: معركة فلسطين. ليس في الضمير العربي فقط بل في الضمير الإنساني العالمي، والمظاهرات الكبرى تشهد.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024