معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

"أكتوبر" الذي في القصر
07/10/2023

"أكتوبر" الذي في القصر

أحمد فؤاد

نصف قرن بالتمام والكمال يمر اليوم على أحد أهم أيام العرب في تاريخهم الحديث، ذكرى معركة أكتوبر التحريرية، التي أطلقتها مصر وسوريا ضد العدو الصهيوني في العام 1973، بهدف إزالة آثار عدوان 1967، واستراد الأراضي التي فقدوها، واستعادة الثقة، والثأر للكرامة التي تمزقت في حزيران البائس، وأهداف أخرى كبيرة وجليلة وضعت قبل الحرب، وكان السعي إليها في حد ذاته هدفًا وحده.

اليوم نحن كأمة وكأشخاص في أشد الاحتياج لكسر حالة "التحريم" الرسمي عن مناقشة أحداث الحرب وتطوراتها المفجعة، وكيف تحول انتصار في اليد إلى هزيمة كبرى، وكيف انتهت اندفاعة الجنود الشريفة إلى ثغرة مروعة ابتلعت كل ما يمكن أن تبتلعه من ثقة ومن نجاح ومن فرص، وكيف نُقلت هذه الهزيمة لنا باعتبارها نصرٌ كبير، في مصر على الأقل، وكيف يتسابق النظام مع مؤسساته وإعلامه في تحويل "أكتوبر الذين عبروا" إلى "أكتوبر صاحب القصر"، وتمنع أية مناقشة تحاول أن تقرأ لتبني بفهم صحيح، ما الذي جرى، وكيف جرى، وكيف وصلنا إلى هذا القاع، حيث العجز والمهانة والخمول.

يذكر لمصر تاريخيًا، سبقها المروع في تقديس الحكام وتأليههم في ديانتهم الوثنية القديمة/ الجديدة، في المعابد المصرية المنتشرة بطول وادي النيل، لن تجد صورة على جدار لملك قديم إلا وتحيط وجهه أقراص الشمس المقدسة، رمز تعبيري بالغ الذكاء في تغيير انتماء أي حاكم إلى جنس آخر يسمو فوق غيره من الناس، الديانة المسيحية هي الأخرى انتقت هذه الطريقة في تصويرها للعذراء مريم والسيد المسيح (ع) بهالة نورانية في الأيقونات المقدسة، بحيث نفت من الأصل البشرية عنه.

أكتوبر بالنسبة إلى مصر الرسمية، على الأقل، تحول إلى ما يشبه رحلات الحج في الجاهلية، حيث يتسابق الشعراء والخطباء وشيوخ القبائل في الفخر البائس بنفسهم وقبائلهم، والنفخ الكاذب في ذواتهم، والقيام بطقوس بلهاء حول أحجار صنعتها أيديهم، وقالوا إنها آلهة، حيث الدوران في الفراغ وحول الفراغ كركن مركزي، تشبه حالة تعبدية، هذا ما يحدث سنويًا في مصر، ومع مرور السنوات فقدت الرموز جل معانيها ورموزها المفترضة لعموم الناس، بالنسبة للنظام الحاكم، من الممكن فهم موقفه وتفسيره، الحاكم عسكري، وهو إن لم يشارك في الحرب، فإن شرعيتها تنعكس عليه، ووجه الرئيس الحالي اُقحم في كل صورة عن "أكتوبر 73"، ببساطة يريد المجد مجانيًا، بلا أثمان ولا شبهة معارك.

الصهاينة في ذكرى اليوم الذي يعتبرونه انتصارًا، وخطوة في سبيل تعميق وجودهم في المنطقة العربية عبر معاهدات الاستسلام والذل، أخرجوا وثائقهم وحكاياتهم للعلن، النقطة الفارقة هنا هي أنهم يعودون للخلف للتعلم والفهم وتجنب المزالق بأيسر السبل، ويبثون دعاياتهم حول وجود عملاء لهم على أعلى مستوى في بعض الدول العربية، لمزيد من تصدير أسباب الفتنة وتغيير الاتجاه، وهو أمر يفترض أن يدفعنا لإعادة مراجعة المواقف، واكتشاف مواطن الخلل والضعف ومكامن الشرور، التي خلقت تيارًا يتبنى "الهزيمة" باعتبارها مصيرًا، والاستسلام باعتباره خيارًا عقلانيًا للشعوب العربية أمام الكيان.

الذكرى الخمسون على حرب أكتوبر، في مصر، ليست أكثر من برنامج تافه آخر، معاد وممل، إنها الفكرة الشيطانية الخبيثة تكبر ونشاطاتها السنوية تتسع، وتأثيرها يتغلل، وقد تحولت إلى شيء ضخم ومخيف، وبقدر ما يدعو أصحابه لقداسة تغلقه يدفعنا للتعاسة، أكبر بكثير مما استطاعه أو خطط مؤسسها الأول، وأوسع من الأهداف والظروف التي استدعت بالأصل وضع أساسها وإطلاقها.

ولأنه ليس تقليبًا في التاريخ لإصدار حكم إدانة تجاه شخص أو حتى مؤسسة، السقوط في العالم العربي أمام الكيان كان هو الفرضية الأكثر ترجيحًا في كل معاركنا، منذ البداية، أكتوبر ليست مختلفة ولا مصادفة أليمة، رغم بشائر الانتصار الأولي، إلا أن السادات دخل الحرب ويده مع سورية وقلبه وعقله في واشنطن، الطبقة التي تعتبر أميركا هي الإله والجنة لن تقدم لنا أكثر من هذا الطريق وهكذا نتائج، كان منطقيًا جدًا أن تستتبع الانطلاقة الأولى وقفة حمقاء تمكن العدو من لملمة شتاته وتوجيه ضرباته، بطريقته المفضلة: جبهة واحدة في المرة الواحدة، ثم يسعى لهجوم أرعن في مضايق سيناء، أعقبته هزيمة مدوية يسمونها تخفيفًا "الثغرة"، حيث اخترق الصهاينة كل الجبهة المصرية، وعبروا قناة السويس، إلى حيث طوقوا الجيش الثالث ومدينة السويس، وتوقف القتال ــ رسميًا ــ عند خطوط "22 أكتوبر"، بعد 16 يومًا فقط لا غير في ميادين القتال، بهزيمة جدًا، أثقل وأشد ترويعًا من كل ما سبق.

من جانبنا، وفي هذا اليوم المجيد، أثبت العربي المقاتل في الجيشين العربيين المصري والسوري أنه لا يقل جسارة ولا بأسًا عن الجيش الصهيوني، الذي كان يقال أنه لا يقهر، وخلال الساعات الأولى للمعركة ــ التي بدأت واعدة ناجحة ــ تمكن الجيش السوري من اكتساح خط آلون الدفاعي، والبدء في التقدم عبر مرتفعات الجولان الوعرة إلى حيث يشرفون على فلسطين، وفي مصر عبر الجنود بزوارقهم المطاطية قناة السويس، ونجحوا في إسقاط دفاعات ونقاط خط بارليف، وتحويله من سد حصين مانع إلى ورقة احترقت في ساعات القتال الأولى.

ربما عادت سيناء إلى مصر، لكنها عادت بغير قتال طويل، يُشعر الناس بفداحة ثمن بقاء الكيان في فلسطين، وتحققت واحدة من أسوأ كوابيس شهيد العسكرية المصرية الفريق عبدالمنعم رياض، والذي سقط على جبهة القتال في حرب الاستنزاف، في محادثة له ــ نشرها الأستاذ محمد حسنين هيكل في ذكرى ارتقائه ــ قال فيها: "إذا عادت سيناء بغير قتال، يدفع الجميع ثمنه، ومعركة تستمر طويلًا، يشعر الناس بثقلها وأعبائها، فإن البلد ستنهار أخلاقيًا، وتسقط القيم فيها، ضرورة المعركة العسكرية لتحرير الأرض العربية تمس شرف كل مواطن، ستتحول البلد إلى مرتع للسماسرة نهارًا والعاهرات ليلًا".. وصدق الشهيد، وتحولت فعلًا.
..
في أكتوبر، وفي كل يوم آخر قبله أو بعده، وقفة واجبة لتحية مواطن عربي غير عادي، الشهيد البطل سليمان خاطر، الذي اختار يوم 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1985، ليقول كلمة الرفض عالية مدوية في وجه نظام مبارك، وكل مطبع سبقه وتلاه، أن يكتب بالبارود حفرًا على جبين الزمن "لن نصالح ولن ننسى"، البطل الذي قتل غدرًا وغيلة في السجن الحربي يوم 7 كانون الثاني/ يناير 86، في واحدة من أقذر جرائم مبارك، ستبقى هذه الكلمات حية نابضة، مهما هرولت الأنظمة أو استسلمت أو ركعت، سيبقى شعار "الهدف واحد ومحدد ودقيق.. إزالة إسرائيل من الوجود" مرفوعًا وقائمًا ووحيدًا.

حرب تشرين

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف