نقاط على الحروف
أخرق من لا يتعظ من تجارب الآخرين
د.علي أكرم زعيتر
في المقابلة التي أجرتها معه شبكة "فوكس نيوز" الأميركية قبل أيام، تحدث ولي العهد السعودي بصراحة عن رغبة بلاده في انتهاج مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني استجابةً لمبادرة تقدمت بها إدارة الرئيس الاميركي جو بايدن قبل مدة.
ما كان يجري في الخفاء قبل أعوام، بات يجري في العلن هذه الأيام. وما كان قادة الرياض يخجلون من قوله أو الإفصاح عنه، بات ابن سلمان يتحدث عنه بكل صفاقة، فما عدا مما بدا حتى انقلبت الأحوال؟ وكيف تسنى لابن سلمان أن يخلع القناع الذي لطالما حرص أسلافه من آل سعود على ارتدائه؟
ألم يتعظ الرجل من تجربة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في كامب ديفيد؟ ألم يبلغ أسماعه ما حصل مع الأردن في وادي عربة؟ وماذا عن اتفاقيات أوسلو؟ ألم يهمس أيٌّ من مستشاري والده في أذنيه ليذكره بما جنته أيدي الفلسطينيين من أوسلو؟ ولماذا نوغل في استحضار تجارب من الماضي؟ هذه الإمارات وهذه البحرين ــ اللتان ما كانتا لتجرؤا على الانخراط في اتفاقيات أبرهام لولا كلمة السر السعودية ــ على مرمى حجر من الرياض، وقد فعلتا فعلتَهما قبل مدة وجيزة (عامين تقريباً)، فما الذي حصده عيال زايد، وابن خليفة من التطبيع سوى الخيبة؟!
يحلم ابن سلمان في أن يمسح الفانوس السحري الأميركي، فيخرج منه بايدن على هيئة مارد، ليقول له: "لبيك.. بايدن عبدك بين يديك"! ويتناسى الشاب الثلاثيني في غمرة أحلامه أن أميركا ليست فانوساً سحرياً، كما أنها ليست بلد الأحلام، وإن كان لا بد أن نطلق عليها وصفاً دقيقاً، فهي أقرب للشيطان الذي يمنّي بني الإنسان ويعدهم ثم يخلفهم، ثم يقول لهم بعد أن يخلفهم: "إن الله وعدكم وعدَ الحق ووعدتُكم فأخلفتُكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتُكم فاستجبتُم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم… الآية ٢٢ من سورة إبراهيم".
"تلك أمانيُّهم".. ويمنّي ولي العهد نفسَه في أن ينتزع من بايدن:
١ـــ معاهدة دفاع مشترك على غرار معاهدة حلف شمال الأطلسي، تؤمن الولايات المتحدة للسعودية بموجبها الحماية العسكرية المطلوبة، متى ما تعرضت لخطر خارجي داهم.
٢ــــ تأييد ودعم أميركي صريح للمشروع النووي السلمي الذي تعتزم السعودية تنفيذه بحلول العام ٢٠٣٠، ضمن ما يعرف برؤية ٢٠٣٠ الخاصة بابن سلمان.
ويغيب عن بال ولي العهد الشاب، ما حل من قبل:
أــ بأنور السادات حينما أوهم نفسه عام ١٩٧٨ بأن ٩٩٪ من أوراق الحل في منطقة المشرق العربي بيد أميركا، فطرد الخبراء السوفيات من مصر وفتح الباب على مصراعيه أمام النفوذ الأميركي، ظناً منه أنه كلما كان طيعاً بيد أميركا أغدقت عليه نعمها. فيما الحقيقة تقول: كلما ألقيت وقوداً في حجرة النار الأميركية قالت: هل من مزيد؟
لقد كلف الرهان الساداتي على الولايات المتحدة مصر أثماناً باهظة ما كانت لتدفعها قط، حتى في أحلك ظروفها، فهي فضلاً عن خسارتها لمقعدها في جامعة الدول العربية وقتذاك، وإحجام غالبية الدول العربية عن التعامل معها، واتهامها بالخيانة من أقرب المقربين، وتلاشي قدرتها على الردع، وتآكل نفوذها العربي والإقليمي، وفقدانها للغطاء السوفياتي الذي لطالما أمّن لها مقتضيات الصمود والتصدي، في حين أنه كان بمقدورها لو أنها حافظت على علاقات سوية مع القوتين الكُبْرَيين (أميركا والاتحاد السوفياتي) أن تنتزع من المعسكرين الغربي والشرقي امتيازات لا قِبَل لأحد بها، فضلاً عن كل ذلك، فإنها اضطرت في نهاية الأمر أن تخرج من مفاوضات كامب ديفيد صفر اليدين.
ب ــــ بملك الأردن حسين بن عبد الله الذي تلقى من الرئيس الأميركي بيل كلينتون، عقب توقيعه على اتفاقية وادي عربة عام ١٩٩٤ وعوداً، تقضي بتحويل مملكته إلى واحة غنّاء، عامرة بالخيرات، فإذا بها تتحول بعد أعوام إلى "وطن بديل" للشتات الفلسطيني، وإلى دولة عاجزة عن تأمين أبسط مقومات الحياة لمواطنيها، تستجدي من هذه الدولة وتلك المياه والكهرباء وغيرهما من الخدمات العامة.
بارعة هي الولايات المتحدة في الإيقاع بضحاياها، فما أن يعطوا بأيديهم إعطاء الذليل مرة، حتى يسهل الهوان عليهم مرات، وما إن يخطوا نحوها خطوة حتى تتسارع خطواتهم اللاحقة دون أن يشعروا. لا قادتها سحرة، ولا دولتها العميقة خارقة للطبيعة، ولا قدرتها على الإقناع فائقة للتصور. كل ما في الأمر أن ضحاياها سذّج وبسطاء، ومن السهل الإيقاع بهم.
أوقعت بادئ ذي بدء بأنور السادات، وحولته من قائد سياسي وعسكري خاص حرب العام ١٩٧٣ ببسالة إلى خائن، لم يبقَ عربي إلا ورجمه بحجر، ثم أوقعت بالملك حسين وجعلت منه رمزاً من رموز العمالة، وبعده بابن خليفة وابن زايد، وها هي اليوم على عتبة الإيقاع بابن سلمان، فهل تنجح في مسعاها فتحوله إلى أبي رغال عربي جديد، أم يفلت من يديها كما أفلت آخرون؟
من يتابع نشوة ولي العهد وهو يتحدث عن اكتمال مسار التطبيع، وقرب التوقيع على اتفاقية "سلام" مع العدو الصهيوني خلال مقابلته مع "فوكس نيوز"، يكتشف سريعاً حجم النزق الذي يعاني منه الرجل. نزق أفضى به من قبل إلى:
١ـــ إرسال عشرات الانتحاريين إلى الأسواق والمساجد العراقية، حتى غدا الانتحاري السعودي الترند رقم واحد في بلاد الرافدين.
٢ـــ تأليب الليبيين على بعضهم بعضاً.
٣ـــ دعم الجماعات التكفيرية في سورية بالمال والعتاد، حتى أحالت بلاد الشام خراباً.
٤ـــ شن عدوان عبثي على اليمن، امتد زهاء التسع سنوات، ولا يزال مستمراً حتى لحظتنا هذه.
٥ـــ اغتيال الصحفي المعارض جمال الخاشقجي وتقطيع أوصاله.
٦ـــ تصفية رئيس وزراء لبنان الأسبق سعد الحريري معنوياً وسياسياً، بعد وضعه تحت الإقامة الجبرية في الرياض، وإرغامه على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة وحل حزبه السياسي (تيار المستقبل).
لم يبقَ لابن سلمان شيء يَعتد به. حتى العروبة التي ظل يتشدق بها، فيسبغها على من لا يستحقها تارةً (القوات اللبنانية، الكتائب..إلخ.) وينزعها عن مستحقيها تارةً أخرى (حزب الله، حماس، الجهاد، فصائل الحشد الشعبي، أنصار الله)، ها هو اليوم في طريقه ليخسرها بعد أن قرر خلع رداء الحياء، والمجاهرة علناً بالتطبيع.
يدرك ابن سلمان تماماً، أن الأحادية القطبية، على وشك الأفول، وما محاولة تودده من روسيا والصين، وإصراره على إبرام اتفاق مع إيران عبر الوسيط الصيني إلا لتلمُّسِه اقتراب موعد بزوغ التعددية القطبية، ومع ذلك ما زلنا نراه منقاداً خلف وعود الولايات المتحدة، فما بال الرجل؟
هل يحاول أن يقطف من الولايات المتحدة ما أمكن من قطوفٍ دانية قبل أفول نجمها وتراجع دورها؟ أم أنه يسعى إلى تنويع تحالفاته فلا يقطع شعرة معاوية مع القوة العظمى الحالية، وبالمقابل لا يستنكف عن مد يده إلى القوى الصاعدة؟ لا ندري صراحةً ما الذي يدور في خَلَد الرجل، ولكن مما لا شك فيه أن ما عجزت الولايات المتحدة عن الإيفاء به لأنور السادات والملك الأردني وهي في أوجِّ قوتها لن تستطيع الإيفاء به لابن سلمان وهي على وشك التهاوي.
تقول الحكمة العربية، إن من لا يتعظ من تجارب الآخرين، لا شك أنه أخرق، فهل اتعظ ولي العهد من سِيَر من سبقوه إلى نادي المطبعين؟ أم أن الكبرياء الزائفة والعنجهية المفرطة طمستا على عينيه فما عاد يرى أبعد من أنفه؟
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024