نقاط على الحروف
"ممر".. خنجر يهوذا المسموم
أحمد فواد
يبدو العالم العربي على الخرائط ومن النظرة الأولى مفتتًا متباعدًا، تمزقه خطوط الحدود كما يقطع السكين اللحم، وتتقاسمه المواقف السياسية الموروثة والمتنافرة دائمًا، وتفرق بينها أنظمة الحكم على ألوانها واتجاهاتها، لكن هذا العالم يظهر في وقائع أي حدث طارئ أو خلفياته كتلة واحدة متجانسة متماسكة، على الأقل شعبيًا على مستوى الشارع والمواطن العادي –جدًا- وتمنح الإشارات بعد الإشارات على كونها أمة واحدة، تحركها المخاوف ذاتها، ويغازل وجدان شعوبها آمال تتشابه، تحب وتكره معًا، تحكمها وتتحكم فيها طاقة إنسانية هائلة متجانسة، بحيث تبدو مدنها وقراها نسخ متطابقة، لا يكاد يتغير فيها إلا الاسم والموقع الجغرافي.
وإذا كانت هناك حقائق عليا، تحكم العالم العربي وتضمه وتضع أولى لبنات أي حل، فإنها تتمثل في كلمة صادقة وعميقة المغزى والدلالة –والألم كذلك- قالها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، في خطابه الأشهر عشية نكسة حزيران 1967، شارحًا أسباب اندفاعه إلى المواجهة العسكرية مع العدو الصهيوني، والتي ثبت بعدها أنها كانت فخًا هائلًا، أُعد بعناية وعلى مهل، قال ناصر عن قراره بحشد الجيش المصري في سيناء، إن التحركات الصهيونية ضد سوريا كانت واقعًا ورد الفعل المصري كان طبيعيًا ومنطقيًا "وفضلًا عن أن ذلك واجب الأخوة العربية، فهو أيضًا واجب الأمن الوطني، فإن البادئ بسوريا سوف يثني بمصر".
وربما منحت هذه الأيام والسنوات التي أعقبت ما تسمى ثورات الربيع العربي، هدية من الطراز الفاخر، وهي كشف المؤامرة الأميركية على سوريا، والأدوار التي لعبتها كل أنظمة الحكم العربية فيها، بالتواطؤ، وبالخيانة الصريحة، وبتوفير أقصى ما أمكنها توفيره من موارد وأموال وجهد لإسقاط دمشق ونظام الحكم فيها، هذا كله خدمة للكيان المؤقت، خدمة هائلة ومجانية، ارتكبتها بالدرجة الأولى أنظمة الحكم في الخليج العربي، قطر والسعودية والإمارات، ووفقًا لحديث رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الأسبق حمد بن جاسم، فقد لخص المؤامرة الخليجية التي جمعت كل الفرقاء تحت العباءة الأميركية بقوله: "تهاوشنا على الصيدة ففلتت".
في الأزمة العربية الحالية، كما في حال سوريا، تلعب أنظمة الخليج وحكامها دور القردة المجنحة كما جاءت في القصة البديعة للمؤلف الأميركي فرانك بوم في رواية "ساحر أوز العجيب"، الصادرة في عام 1900، وهذه القردة باختصار كانت تقوم بتنفيذ رغبات وأوامر الساحرة الشريرة، كأذرع قذرة قادرة على الطيران والوصول إلى كل هدف بسرعة وخفة، وهي لا تبحث عن مصالح ولا تذهب وراء أهداف تعرفها، فقط تنفذ خطط الساحرة كما تأمر هي بها.
ما حدث فعلًا في قصة المشروع الأميركي الجديد للمنطقة "ممر"، هو عملية طعن مقصودة ومع سبق الإصرار من الأنظمة الخليجية لبقية الدول العربية، بشكل يستهدف أدوارها ويخصم من أرصدتها ويضيف إلى الكيان الصهيوني. أقل ما توصف به هذه الاتفاقية هي أنها خيانة لخمس دول عربية على الأقل، العراق، سوريا، لبنان، مصر، اليمن، وهي لا تهدد فقط حاضرها ومشاريعها وخططها، لكنها تسحق قبل ذلك آمالها.
ما جرى الاتفاق عليه بين واشنطن والرياض وأبو ظبي هو طريق اقتصادي جديد، يربط بين الهند وأوروبا عبر محور يمثل الخليج والكيان والأردن، وهو يحاول الالتفاف على المشروع الصيني الهائل "طريق الحرير الجديد" ويطوق مبادرتها التي أعلنتها قبل أعوام تحت لافتة الحزام والطريق، والتي تصب لصالح الربط بين قلب آسيا والعالم العربي، مرورًا بالعراق وسوريا ولبنان إلى البحر المتوسط وأوروبا من ورائه، كما وتهدد الطريق القائم حاليًا وهو البحر الأحمر، الذي تمسك اليمن بمفاتيحه عند باب المندب، وتحكم مصر أيديها على عنقه بواسطة قناة السويس.
بالنسبة لمصر، على الأقل، فإنها تتمتع حاليًا بآخر أوراق أرصدتها الإستراتيجية في الإقليم، قناة السويس تدر على الموازنة المختلة 9.4 مليار دولار سنويا، والتي يمر عبرها 10% من حركة التجارة العالمية، و7% من صادرات النفط، ستضيع القناة بعد أن فرطت وأضاعت كل شيء، من تيران وصنافير التي كانت لتغلق خليج العقبة تمامًا وكانت تجعله مياهًا إقليمية مصرية، إلى النيل الذي بات تحت سيطرة إثيوبية كاملة، إلى القرار السياسي الذي كلل وأتم سقوطه وزين آثامه في حق البلد بالحضور كضيف على هامش قمة "G 20"، التي شهدت التوقيع على اتفاق مشروع ممر الجديد.
الصحافة العبرية، وقبل أن تبرد توقيعات أطراف المؤامرة الجديدة، انطلقت في حملات تهليل بالنصر الآتي، وهو تحويل الكيان إلى ممر رابط وضامن للتجارة العالمية وحركة النفط، خصوصًا مع وجود مشروع مدينة "نيوم" السعودي على بعد خطوات من ميناء إيلات، ما يجعل الطرق بين الخليج والكيان مفتوحة وقريبة وقائمة، وهو في ذاته هدف يحقق لها أحلامًا كبرى طالما سعت لها منذ إنشائها، ونظّر لها ناحوم غولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، في سبعينيات القرن الفائت تحت عنوان زواج الرأسمال العربي بالذكاء اليهودي.
المشروع الجديد "ممر" من وجهة النظر الأميركية يحقق لواشنطن حزمة من الأهداف بضربة واحدة، فهو يستبق مشروع الصين "طريق الحرير"، ويحاصر روسيا ويزيد من المصاعب أمام دول تقف ضده في المنطقة، مثل إيران وسوريا، ويمنحها وجودًا دائمًا في قلب العالم العربي، ممسكة بتلابيبه، وهو يمنح أنظمة الخليج فرصة إعلامية أمام شعوبهم، خصوصًا السعودية، لتمرير وتبرير قرار التطبيع الذي أصبح تحصيل حاصل، ويزيد من فرص تحوله من هدف اقتصادي إلى مطلب سياسي.
المؤكد حتى اللحظة، أن "ممر" سيقوم على ربط بحري بين ميناء حيفا في فلسطين المحتلة إلى إيلات والأردن عبر خطوط سكك حديدية، ثم إلى مسار بحري عبر ميناء العقبة يربطه بمدينة نيوم، ثم إلى موانئ الإمارات ومنها إلى الهند، مع مسارات أخرى برية تربط بين البحرين والسعودية والإمارات بالأردن وكيان الاحتلال، وهو ما يساعد على تقصير سلاسل الإمداد، ومنح فرصة نمو غير تقليدية لصادرات الهند في صراعها الكبير مع التنين الصيني، مقابل أنه يغلق الطريق أمام بقية الدول العربية للاستفادة، وبدلًا من استفادة حلب وطرابلس تنتعش حيفا وإيلات، وهو ككل مشروع أميركي للمنطقة يرغب أولًا، وقبل أي شيء، في أن يرانا جثثًا ممزقة ومدنًا ينعق فيها البوم.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024