نقاط على الحروف
مؤتمر جدّة للسلام في أوكرانيا: حاجة أمريكية بعباءة سعودية؟!
حيّان نيّوف
شكّلت الدعوة السعودية لعقد مؤتمر للسلام حول أوكرانيا على مستوى مستشاري الأمن القومي لأكثر من ثلاثين دولة مفاجأةً للمتابعين والمهتمين بالشأن السياسي. وجاء الإعلان السعودي عن المؤتمر الذي سيعقد في جدّة ما بين الخامس والسادس من الشهر الجاري بعد أن سرّب الإعلام الامريكي أول الاخبار المتعلقة بهذا المؤتمر.
من البديهي أن السعودية ما كانت لتدعو إلى مؤتمر كهذا من تلقاء نفسها، فيما تحمل عدم دعوة روسيا للمؤتمر مؤشرا على أن المؤتمر جاء بطلب من الولايات المتحدة أو على الأقل بالتنسيق معها ومباركتها، وهو ما تؤكده نقطتان، إحداهما تمثلت بأن التسريبات الأولى المتعلقة بالمؤتمر جاءت من واشطنن وعبر إعلامها، والأخرى تمثلت بمباركة المسؤولين الأمريكيين رفيعي المستوى لهذا اللقاء الذي سيحضره مستشار الأمن القومي الأمريكي "جاك سوليفان" والذي واظب مؤخرا على زياراته المتكررة للسعودية ولقاء مسؤوليها.
وفي الوقت الذي أكدت فيه السعودية أن المؤتمر يهدف إلى "تعزيز الحوار والتعاون من خلال تبادل الآراء والتنسيق والتباحث على المستوى الدولي حول حل الأزمة الأوكرانية ومنعكساتها على الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية وغيرها"، فإن الولايات المتحدة قالت إن اللقاء يهدف إلى استمرار الحوار وفقاً لخطة السلام الاوكرانية التي عرضها زيلينسكي.
وتشمل قائمة المدعوّين للمؤتمر ما يزيد عن 30 دولة من مختلف قارات العالم وربما وصل العدد إلى 40 دولة، وهو ما يظهر تحشيداً سياسياً تريده واشنطن للضغط على موسكو في ظاهر الأمر، لكنه في ذات الوقت يخفي ما هو أبعد من ذلك بالنسبة لواشنطن التي تسعى للبحث عن مخرج للمأزق الذي وضعت نفسها فيه بعد الفشل الذريع للهجوم الأوكراني المضادّ وعجزها عن تحقيق أيّة إنجازات ميدانية من خلاله، يؤكد ذلك حضور الصين للمؤتمر من خلال الدعوة التي وجهت لها وهي دعوة ما كانت لتوجه لبكين لولا طلب واشنطن وإصرارها.
فما هي العوامل التي دفعت بواشنطن للجوء إلى حليفها السعودي لعقد هذا المؤتمر؟ وهي سياسة لطالما اعتادت الولايات المتحدة على اتباعها كلما اصطدمت خياراتها الإستراتيجية بالفشل!
يمكن إيجاز العوامل التي دفعت بالولايات المتحدة إلى عقد هذا المؤتمر بالتالي:
1ــ فشل الهجوم الأوكراني المضاد بعد أن عوّلت الولايات المتحدة كثيراً عليه وحشدت مع حلفائها في الناتو لإجله العتاد والسلاح والذخيرة بهدف إحداث تغييرات ميدانية على الأرض تنتهي بإجبار موسكو على التفاوض وفقاً للشروط الأمريكية.
2ــ انخفاض مخزونات الذخيرة والسلاح الغربية بعد ان استهلكت الحرب الأوكرانية كماً هائلاً منها مع الحاجة إلى سنوات لتعويض الفاقد اللازم وهو ما عكسته الزيادة في موازنات الدفاع للدول الغربية.
3ــ انسحاب روسيا من اتفاقية البحر الأسود للحبوب والأسمدة، وما تلاه من استهداف روسي لموانئ أوكرانية على نهر الدانوب في شرق اوكرانيا.
4ــ الحظر الذي فرضته بولندا على المنتجات الزراعية الأوكرانية خوفًا من تأثر انتاجها الزراعي واقتصادها، ما يعني زيادة في الحصار على الحبوب الأوكرانية بعد تعطل اتفاقية الحبوب في البحر الاسود.
5ــ التلويح البيلاروسي المدعوم من روسيا بالدخول إلى غرب أوكرانيا في حال حاولت بولندا والناتو إدخال قوات عسكرية أو ضم اجزاء من اوكرانيا لبولندا، بالإضافة لتمركز قوات فاغنر على مقربة من الحدود البيلاروسية الأوكرانية.
6ــ استهداف القوات الروسية لبلدة (ريني) الأوكرانية الواقعة على نقطة التقاء الحدود مع رومانيا ومولدافيا على نهر الدانوب، ما يعني نقل المعركة إلى حدود الناتو، حيث تمثل بلدة ريني مركزا لوجستيا مهما للغاية يقوم عبره الناتو بإمداد أوكرانيا عسكريا بالسلاح والذخيرة، بالإضافة إلى احتوائها على مخازن للحبوب الأوكرانية التي يجري تصديرها لأوروبا.
7ــ تخفيض العديد من دول أوروبا لإمدادات الأسلحة والذخيرة الخاصة بأوكرانيا بعد انخفاض مخزوناتها، وهو أمر اعترفت به بعض الدول الأوروبية.
8ــ تهديد روسيا بإنشاء منطقة آمنة داخل أوكرانيا إلى الغرب من خط الجبهة الحالي، وهذه المنطقة من الممكن ان تمتد من خاركوف في الشمال الشرقي إلى أوديسا في الجنوب الغربي على البحر الأسود.
9ــ خشية الولايات المتحدة وفي ظل كل العوامل السابقة من اشتعال جبهة أخرى ذات درجة عالية من التأثير الجيوسياسي وتحديدا في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، وهذه الخشية عكستها زيارة كيسنجر المفاجئة للصين والتي رجحت معظم التحليلات فشلها.
10ــ الهلع الامريكي من لجوء خصوم الولايات المتحدة لاتباع استراتيجيا التشتيت الجغرافي عبر إشعال جبهات مختلفة على مستوى العالم تسهم في تشتت القوة العسكرية الامريكية والغربية في ظلّ استمرار الحرب الأوكرانية وما تسببت به من نقص في السلاح والذخيرة. هذه الجبهات المحتملة ليست مقتصرة على مضيق تايوان فحسب، بل ظهرت مؤشرات عدة لجبهات اخرى في أفريقيا (النيجر، السودان، أثيوبيا، ليبيا وغيرها)، وفي أميركا اللاتينية حيث التمدد الأمني والعسكري الصيني الإيراني، وفي سورية في شرق الفرات حيث التحشيد والتهديد بطرد المحتل الامريكي، وأيضاً في فلسطين المحتلة وصولًا إلى الجنوب اللبناني وإلى اليمن، وكذلك الأمر في أقصى شرق آسيا حيث التنسيق الصيني الروسي مع كوريا الشمالية والذي عكسته المناورات البحرية الروسية الصينية وزيارة وزير الدفاع الروسي لكوريا الشمالية.
11ــ عجز الولايات المتحدة عن اللجوء لاستخدام الأسلحة الإستراتيجية ضدّ خصومها في ظلّ التطور العسكري والتكنولوجي الهائل الذي أظهرته كلّ من الصين وروسيا وإيران.
12ــ اقتراب الشتاء في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية وما يعنيه ذلك من تجميد لخطوط الجبهة لعدة أشهر، بل يعني تثبيت فشل الهجوم المضاد، هذا إن لم تفاجئهم روسيا بهجوم جديد مباغت يضاعف من المساحات المقتطعة من اوكرانيا ويعمق أزمتها وأزمة واشنطن.
13ــ استمرار أزمة التضخم في الولايات المتحدة و اضطرار البنك الفيدرالي الأمريكي إلى الاستمرار برفع أسعار الفائدة، وانعكاس ذلك على قلة الثقة بالدولار وارتفاع وتيرة لجوء دول العالم للتبادل التجاري بالعملات المحلية.
14ــ اقتراب الولايات المتحدة من الدخول في موسم الانتخابات الرئاسية مطلع العام المقبل وحاجة إدارة بايدن لتحقيق أي انجاز حتى لو كان صغيرا والخشية من دخولها المعركة الانتخابية مثقلةً بالهزائم على الصعيد الدولي وعلى الصعيد الداخلي، وفي ظل الانقسام الشاقولي للجبهة الداخلية الأمريكية وصعود شعبية ترامب مرة أخرى.
يمكن القول إنّ هذه العوامل وغيرها، والتي تعكس فشلاً ذريعا للإستراتيجات الامريكية المتبعة من وصول بايدن إلى البيت الأبيض، والتخبط الأمريكي الواضح في التعاطي مع القضايا الدولية، والعجز عن فرملة تراجع النفوذ والهيمنة الأمريكية لصالح التمدد الروسي الصيني الإيراني، بالإضافة إلى ضغط عامل الوقت، كله ساهم بلجوء الولايات المتحدة إلى البحث عن خيارات جديدة لحفظ ماء وجهها، ومنع انفلات العالم بأسره في ظل ارتفاع عدد الدول الراغبة بالتخلص من الهيمنة الأمريكية أو الدول الراغبة بتنويع تشابكاتها الإستراتيجية، وهو ما دلت عليه تصريحات غربية وسعودية وصفت فيه مؤتمر جدة بأنه مقدمة للقاء آخر على مستوى القمة للسلام العالمي.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024