نقاط على الحروف
عالمية الثورة الحسينية ومحورية عاشوراء وكربلاء
بغداد: عادل الجبوري
لا يمكن لأي قراءة علمية وموضوعية للثورة الحسينية أن تتجاهل أو تبتعد عن شعار "كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء"، ولا يمكن لها أن تتناول الثورة بمختلف أبعادها وجوانبها الإنسانية والسياسية والاجتماعية والوجدانية، ضمن أطر زمانية ومكانية محددة، تحصر ذلك الحدث التاريخي الكبير في مساحات ومديات ضيقة، مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن نقاط الانطلاق لا بد أن تكون من كربلاء (الطف)، ومن العاشر من المحرم الحرام (عاشوراء).
ففي كل عام، وعلى امتداد شهري المحرم وصفر، يتحول العراق الى لوحة بانورامية كبيرة جدًا بألوان سوداء وحمراء وخضراء، تتخللها مختلف مظاهر الحزن واللوعة والأسى في إطار إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع). ومع أن استذكار وإحياء هذه المناسبة يتركز في مدن الجنوب والفرات الأوسط وجزء كبير من العاصمة بغداد، إلا أن مدن ومناطق مختلفة تتميز بطابعها السني أو الكردي أو التركماني -إن صح التعبير- تشهد مظاهر مماثلة، ارتباطًا بحقيقة أن ثورة الإمام الحسين(ع) كانت ثورة عالمية انسانية ضد الظلم والطغيان والاستبداد، ولم تحمل عناوين ومسميات طائفية ومذهبية معينة.
ولا شك أن مظاهر إحياء ذكرى ثورة الطف لا تقتصر على العراق والعراقيين فقط، بل إنها تمتد إلى الكثير من البلدان الاسلامية وغير الاسلامية، بيد أن هناك خصوصية للعراق في هذا الجانب، تتمثل في أن أتباع أهل البيت(ع) يشكلون غالبية أبناء الشعب العراقي، إلى جانب أن أرض العراق كانت هي ميدان ثورة الطف، وكذلك تتمثل بوجود مرقد الإمام الحسين(ع) ومرقد أخيه العباس عليهما السلام في كربلاء، فضلًا عن وجود مراقد ستة من الأئمة المعصومين البالغ عددهم اثني عشر إمامًا، في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، إضافة إلى مراقد ومقامات العشرات من أبناء وأحفاد الأئمة المعصومين التي تتوزع بين مدن الجنوب والوسط والشمال.
وقد لا يختلف اثنان على حقيقة أن الثورة الحسينية تعد من أهم وأبرز الثورات التي مرّت على البشرية خلال تاريخها الطويل، نظرًا لطبيعة الأهداف السامية التي حملتها، وعمق التضحيات التي شهدتها، والرسائل الانسانية البليغة التي انطوت عليها، فضلًا عن تأثيراتها الشاملة في مساحات مكانية وزمنية كبيرة جدًا، وبالتالي، استمرارها وديمومتها، وعدم اقتصارها على المنظومة الاسلامية، ولا منظومة مذهب أهل البيت عليهم السلام.
وطبيعي أن تعدد وتنوع القراءات والتحليلات للأبعاد السياسية والاجتماعية للنهضة الحسينية إلى جانب تجلياتها الإنسانية العاطفية، دائمًا ما كان يأتي بالجديد، وإن بدا للبعض أنه تكرار لما كتب أو قيل في أوقات سابقة. ولعل ذلك التعدد والتنوع، يعكس في جانب منه شمولية الثورة الحسينية، ومن جانب آخر، ديمومتها رغم تبدل الظروف والأحوال، وهذا ما يتمحور حول حقيقة أن مجمل حركة ونهضة وثورة الحسين(ع)، لم تأت من فراغ، وإنما أملتها تراكمات كثيرة وكبيرة من الانحرافات السياسية والاجتماعية والأخلاقية للمنظومة الحاكمة حينذاك، ومثل تلك الانحرافات هي التي كانت سببًا للمواجهة بين حكام الظلم والجور والطغيان من جانب، والأحرار والثائرين ودعاة العدل والاستقامة والايمان والحرية من جانب آخر.
وبما أن السلبيات والأخطاء والانحرافات كانت وما زالت وسوف تبقى موجودة وشاخصة في كل زمان ومكان، وبما أن الأفكار والتوجهات والأهداف الإصلاحية للثورة الحسينية لم تقتصر على بقعة جغرافية معينة، ولا على حقبة زمنية محددة، لذا فإن عالمية الثورة الحسينية، كسِمة وصفة أساسية، ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بشمولية الثورة، من حيث طبيعة وجوهر أفكارها وأهدافها ومضامينها وبأبعادها الإنسانية العظيمة، إذ إن من أهم سمات النهضة الحسينية وعوامل انتصارها، كما يؤكد الكثيرون، هو أنها لم تكن محدودة الأهداف أو مقتصرة على فئة معينة، فقد جاءت لتعلن انتصارها للإنسانية المسلوبة وإرجاع الحقوق الضائعة جراء التمييز والطبقية، فجيش الإمام الحسين(ع) رغم قلّته تجسّدت فيه الإنسانية والعالمية، وتمثلت عالمية الثورة الحسينية من خلال التأثر الواسع والكبير بها، حتى من غير المسلمين من أتباع الديانات الأُخرى في العالم، كما أنّ عالميتها ارتبطت بعالمية الرسالة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد(ص)، وبالتالي عالمية رسالة الأئمة (ع)، ومنهم الإمام الحسين(ع)، لذا فإن مَن يريد اختزال القضية الحسينية وحصرها بشعب معيّن، أو طائفة معينة، فهو مخطئ.
وطبيعي جدًا أنه حينما يستلهم قادة وزعماء سياسيون ودينيون وكتاب ومفكرون، يتبنون أفكار ونظريات وايديولوجيات بعيدة كل البعد عن الدين الاسلامي، مبادئ وقيم الثورة الحسينية، فإن ذلك يثبت ويعزز سمتها العالمية والشمولية. فذاك الزعيم الهندي الكبير المهاتما غاندي يقول "تعلمت من الحسين كيف أنتصر وانا مظلوم"، او كما يقول الزعيم الجنوب افريقي الثائر نيسلون مانديلا "لقد قضيت أكثر من عشرين عاما في السجن، ومن بعد ذلك قررت في احدى الليالي أن استسلم بالتوقيع على جميع شروط الحكومة وقيودها، لكني فجأة بدأت أفكر بالإمام الحسين وبحركة كربلاء، ومنحني الإمام الحسين القوة للوقوف طلبا لحق الحرية والتحرر"، أو كما يؤكد شاعر الهند الكبير رابندرانت طاغور "من أجل ابقاء العدل والحقيقة حيين، لا عن طريق جيش أو اسلحة، فإن النجاح يمكن تحقيقه بالتضحية بالنفس، وهو ما قام به الامام الحسين.. الإمام الحسين زعيم الانسانية".
ولعل مفهوم وهدف الاصلاح عند الإمام الحسين(ع) لم يقتصر على مجرد تغيير منظومة الحكم والسلطة الفاسدة، ولا بجلب التأييد والتعاطف مع مظلومية أهل البيت(ع)، ولا بتحقيق انتصار عسكري في معركة لم يكن لها أن تدوم سوى بضع ساعات أو أيام قلائل، وإنما تمثل في التأسيس لمنهج سلوكي عام يتجاوز الحالة الآنية الراهنة، ويقوم على رفض كل أشكال الظلم والطغيان والاستبداد، والانتصار للمظلومين والمضطهدين، والدفاع عنهم، وتكريس مبادئ الحق والعدل بإطارها الإنساني الواسع، وهذا هدف انساني-سياسي قامت عليه كل الثورات والحركات الإصلاحية أيًا كانت أسسها ومرتكزاتها الايديولوجية ومنابعها الاجتماعية والثقافية.
وما لا شك فيه أن الأبعاد السياسية للنهضة الحسينية تتداخل مع الأبعاد الاجتماعية بإطارها الواسع والشامل، باعتبار أن السياسة وعموم النشاط والفعل السياسي يفترضان أن يستهدف بناء المجتمع بناءً سليمًا، وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت المنطلقات والوسائل والأساليب والأدوات والأهداف صائبة.
وهذا يعني أن عالمية وشمولية الثورة الحسينية التي انطلقت من كربلاء ومن عاشوراء، اكتسبت صفة العالمية والشمولية من طبيعية وحقيقة أهدافها ومبادئها، التي كانت وما زالت وسوف تبقى حاضرة حيثما وجد الظلم والطغيان والاستبداد، وحيثما توفرت إرادة التغيير والاصلاح ومجابهة الفساد والانحراف.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024