نقاط على الحروف
اللطميات الحسينية: مشهديات مؤثرة
حسن نعيم
اللطميات الحسينية هي القصائد والمرثيات والأناشيد التي تقرأُ على المنابر ويصحبها الضربُ على الصدور "مواساةً لأهل البيت بمصاب الحسين(ع)" والانسجام العاطفي مع القصائد والمرثيات التي تناولت واقعة الطف معلنة ولاءها للنهج الحسيني الثائر في وجه الطغيان في كل زمان ومكان.
يعتبر اللطم من أشهر المراسم التقليدية في مأتم الإمام الحسين عليه السلام بشكل خاص، ويقوم فيها المعزّون بلطم صدورهم أثناء سماعهم لهذه القصائد الرثائية. وقد احتلت اللطميات الحسينية موقعاً بارزا ضمن إحياء الشعائر الحسينية وشكلت مظهرًا لافتًا ضمن مراسم العزاء الحسيني لتضيف ملمحًا من ملامح أشجان كربلاء في لوحة سيميائية كونية يندفع الشيعة في أقطار العالم كل عام لإحياء لياليها في روزنامة عاشورائية لا تبطئ مواعيدها ولا تخالف مواقيتها ولا تزيدها الأعوام إلا توهجًا.
متى بدأت اللطميات؟
أزاء هذه المشهدية المؤثرة للطمية الحسينية كثرت الأبحاث والدراسات التي راحت تتقصى البدايات التاريخية لنشوء هذه الظاهرة. ومعظم هذه الدراسات تحدثت عن صعوبة تحديد البداية الحقيقية للطمية الحسينية.
يرجع بعض المؤرخين بدايات اللطم على الإمام الحسين عليه السلام إلى ظهور "حركة التوابين" في القرن التاسع الميلادي حيث اعتبرت اللطميات الحسينية في حينها تعبيرًا سياسيًا وأداة من أدوات الاحتجاج السياسي على النظام السياسي القائم، وكانت الحركة بمثابة تنظيم سياسي يحاول الإطاحة بحكم "بني أمية".
أما اللطم بشكله الراهن فيعتبر ظاهرة جديدة غير بعيدة الجذور لا سيما في لبنان الذي عرف نمو وازدهار ظاهرة اللطم بإيقاعاتها وحماسها مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران وولادة المقاومة الإسلامية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
بعيدًا عن الناحية التاريخية، يمكننا الحديث اليوم عن أنواع وأشكال ومدارس للطم الحسيني تختلف فيما بينها تبعًا لاختلاف عاشوراء في المخيلة الشعبية والوعي الجمعي لكل دولة من الدول ومجتمع من المجتمعات التي يقيم فيها الشيعة من العراق إلى إيران إلى اذربيجان إلى باكستان والهند.
فقد تميزت بعض البلدان والمناطق، بأسلوب خاص من أساليب اللطم، فللشيعة الهنود أسلوب عاطفي وسريع ومثير، كما يتميز أهل البحرين بنمط خاص من اللطم، ذي النوبات الكثيرة المتواصلة بحماس وإيقاع خاص، بينما الهدوء سمة ظاهرة في اللطم الإيراني، كما وتوجد طرق مختلفة للطم بين مدينة وأخرى، وحتى في البلد الواحد، كاللطم الكربلائي، والنجفي و…
اللطمية الحسينية اذًا ليست ترفًا ولا لهوًا، ولا طربًا، مهما "تفنن" أصحابها في أدائها لترويجها. للطمية الحسينية هدف حقيقي هو استيعاب النهضة الحسينية بكل أبعادها الإنسانية لا سيما قضية الحرية والدعوة إلى مقاومة الظلم والاستعمار. ثمة وظيفة إحيائية واضحة، امتزجت بتراث هذه الشعوب حتى أصبحت فولكلورًا كما في المجتمع العراقي، فولكلور له أصول ومذاهب وطرق ورموز، وأفكار متتابعة تنتقل من معنى إلى آخر، وتستعير لغة الحياة المدنية لتصور واقعًا حيًا خاليًا من التكلف. فشعراء القصيدة الكربلائية المعاصرون انطلقوا من واقعة كربلاء لينظروا إلى ما يمرون به من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية من منظار حسيني، لذا فإن القصيدة الحسينية المعاصرة اتسعت موضوعاتها لتشمل الماضي والحاضر والمستقبل، بكل ما تملك من أبعاد، فالحسين(ع) الرافض للظلم هو عنوان قصيدة لرفض الذل والدعوة إلى تحرر الشعوب.
ارتدت القصيدة الحسينية ثوب اللطمية واجتاحت الأوساط الاجتماعية الشعبية، واشتقت طريقها إلى أسماع الناس؛ عندما راح الرواديد الحسينيون ينشدونها من على المنابر الحسينية لتدخل البيوت ويتفاعل معها الناس بشرائحهم الاجتماعية كافة، مفعمين بمعانيها الضاجة بالتحدي والكبرياء، والإيمان بالله والتضحية في سبيله، مستمدين من الوقفة المتحدية التي وقفها الإمام الحسين عليه السلام في يوم كربلاء معاني التضحية والثبات على القيم في مواجهة طواغيت الأرض مستلهمين من هذه المصيبة دروس الصمود والصبر والتضحية.
لم تقتصر اللطميات الحسينية في مواكبتها الإحيائية للحدث العاشورائي الكبير على رثاء الإمام الحسين والبكاء على ما أصابه، ولم تستغرق في الحزن كي تفرغ الذكرى من مضمونها الثوري الحقيقي، ولم يتوقف الشعراء عند صفاته الخلقية، ليذكروا سخاءه فهو من بيت معروف بالكرم والجود وانما ربطوا هذا الكرم والجود بالتضحية بالنفس من أجل الحفاظ على الإسلام العظيم.
فما أصاب الإمام الحسين(ع) في كربلاء لا يقف عند حدود المأساة الإنسانية فحسب، وإنما يمتد ليصبح قضية إنسانية غايتها إصلاح الانحراف، الذي يمارسه الحاكمون في كل زمان ومكان. تحت الشعار المعروف: كل يوم عاشوراء كل أرض كربلاء، بهذا المعنى تصبح قضية كربلاء قضية الأحرار في العالم تحت أي لواء انضووا، وخلف أي عقيدة ساروا.
نماذج واقعية
تغتذي اللطمية الحسينية من النبع القيمي الحسيني لتحول المفهوم إلى انشودة يترنم بها الثوار لا لتبقى أسيرة الدواوين الشعرية التي يقرؤها النخب والمثقفون. هذا ما تقوله صراحة وليس مواربة لطمية "حياتنا حسين.. مماتنا حسين" للرادود جعفر القشعمي والتي يقول فيها:
ما كتبت الشعر في أروقة القصور طالب الأجور
تقلع السجادة الحمراء من الجذور عندما تفور
ثمن الحرية الحمراء دم المحور في مدى العصور
أما لطمية "يا حسين بضمايرنا" فهي أقوى لطمية عراقية ثورية عرفها العراق، ومن أكمام هذه اللطمية خرج الطلبة العراقيون في "انتفاضة صفر" عام 1977 ضد النظام الصدامي.
وفي لطمية "شبت النار بحلب" تستعر العاطفة الثورية ضد "داعش" إلى الحد الذي تتشابه فيه هذه اللطميات مع أوركسترا الجيوش ولولا الفارق في الآلات الموسيقية لكنا أمام بيئة ثورية عاطفية واحدة تأخذ الثوار والمحاربين إلى ملاحمهم الأسطورية الواحدة وتدع للسياسيين وكبار الجنرالات برود التخطيط العقلي الصرف وتذهب هي بعيدا في الطريق الأحمر مع امامها وقائدها الإمام الحسين عليه السلام.
وفي لطمية "حراس العقيدة" للرادود حسين الأكرف التي يقول فيها:
«شنو نقول وإحنا اليوم قوة/ ونملك عقول والأرواح ثورية وأمينة/ إذا نثور نلوي الموج/ ما ترهبنا البحور/ والعباس ربان السفينة".
هنا تتقاطع اللطمية مع فضائها الحسيني الرحب ويكتمل المشهد الثقافي - السياسي ويتضح الهدف الحقيقي للثورة الحسينية في استمرارية وصيرورة زمنية - مكانية يصفها الإمام الخميني بقوله: كل ما لدينا هو من عاشوراء.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024