معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

بين الشهيد محمد الشامي والشهيد مطهري
17/05/2023

بين الشهيد محمد الشامي والشهيد مطهري

د. أحمد ملّي

بمناسبة رحيل الحاج حسين الشامي..
"دع لي بعض الكلمات..أقدمهن وفاءً لك.." - الشاعر محمد الفيتوري  

كانت المسيرة مع الحاج حسين طويلة، وكانت بكل المقاييس مسيرة فعالة ومثمرة ومحطاتها متعددة..
إحدى هذه المحطات كانت في شهر آب/ أغسطس 1976 في ذروة استعار الحرب الأهلية اللبنانية وبالتحديد في يوم السادس عشر منه. حيث ارتقى محمد الشامي شقيق الحاج حسين شهيداً مظلوماً نتيجة القصف الانعزالي على الشياح. حدث ذلك بعد أربعة أيام بالضبط على سقوط مخيم تل الزعتر ومنطقة الدكوانة في 12 آب/ أغسطس وما ترافق مع ذلك من مآسي  وارتكاب للمجازر بحق المدنيين من لبنانيين وفلسطينيين.

كانت معركة تل الزعتر ونتائجها بمثابة إعصار على الناجين من أبناء هذه المنطقة الذين توزعوا نتيجة التهجير في مختلف الأرجاء اللبنانية، وكان من بين هؤلاء ثلّة من العاملين في المشروع الإسلامي الذين احتضنتهم منطقة الشياح بالإضافة إلى أحياء أخرى من الضاحية الجنوبية.

شهدت بدايات العام 1977 انطلاقة أقوى للجنة الثقافية الإسلامية في الشياح وبدا أن دماءً جديدة قد ضخّت في عروقها، صحيح أنه جرى الاحتفاظ باللجنة الثقافية كإطار للعمل إلاّ أنه تمّت إعادة تشكيل هذا الكيان من جديد وبات أشبه بالنهر الذي اجتمعت فيه روافد من الشياح والدكوانة ومشغرة بلدة الشهيد محمد بجيجي، ولعل ما سهّل الإندماج بين هذه المكونات تلقيهم المشترك للتثقيف الديني لدى المغفور له السيد فيصل أمين السيد.   

كانت السنوات التي تلت وحتى تأسيس حزب الله، سنوات حافلة بالعطاء في تجربة العمل الإسلامي الذي خاضته اللجنة الثقافية في الشياح جنباً الى جنب مع اللجان الإسلامية الأخرى. في استعادة لتلك السنوات وفي ضوء التجربة يمكننا أن نلمح سمات بارزة طبعت مسيرة هذه اللجنة وأضفت نكهةً خاصة على العاملين فيها.

من بين هذه السمات: الأصالة والمعاصرة والالتزام بالمسألة الوطنية والحيوية والاعتماد على النفس والإنفتاح على الآخر بالإضافة لتمتع العديد من كوادرها بدرجة عالية من التسييس.

لا يتسع المقام للتفصيل وسأكتفي بشذرات وشهادات لها دلالاتها المعبرّة:

كان لدى القائمين على لجنة الشياح وجلّهم طلبة جامعيون حرص شديد بأن تكون المتون التي يدرسونها وينهلون منها من ينابيع الاسلام الأصيل لذا كان الحرص على درس تفسير القرآن جنباً الى جنب مع درس الأحكام الشرعية من خلال "الرسالة العملية"، أما المتون الدراسية الأخرى فكانت تعود لكتابات السيد الشهيد محمد باقر الصدر. وفي باب القراءات والمطالعة فكانت الأولوية لكتابات المفكر الجزائري مالك بن نبي والمفكر الهندي وحيد الدين خان وغيرهم..

في المسألة الوطنية، كانت القضية الفلسطينية تأتي في المقدمة وقد تداخلت هذه القضية على الساحة اللبنانية في تلك المرحلة مع المطالبة برفع الغبن والتهميش عن شرائح واسعة من اللبنانيين ولا يكون ذلك إلا من خلال تطوير النظام السياسي في لبنان، لذلك لم يكن مستغرباً إلتحاق العديد من كوادر اللجنة الثقافية في وقت مبكر بمخيم عين البنية الذي كان تحت اشراف الإمام موسى الصدر.

وحين اجتاح العدو الصهيوني جنوب لبنان في 14 آذار/ مارس 1978 وما نجم عن ذلك من احتلال وتهجير لآلاف الجنوبيين هبّ الإخوة في لجنة الشياح مع اخوانهم في اللجان الاسلامية الأخرى لتقديم كافة أشكال العون للنازحين الى الشياح والى سائر أحياء الضاحية الجنوبية.  

ومنذ البدايات امتاز شباب لجنة الشياح بالحيوية وامتلاكهم لروح الاندفاع، فكانت لهم برامجهم وأنشطتهم الخاصة بهم بالإضافة لشراكتهم مع اللجان الاسلامية الأخرى في أنشطة مشتركة، وحفلت أنشطتهم الخاصة بهم حيثما يتواجد كوادر اللجنة بحلقات التدريس التي كانت تقام إما في المساجد أو في المنازل، وفي الشياح كان شباب اللجنة عبارة عن شعلة من النشاط فتعدّدت اللقاءات الدورية التي يطغى عليها النقاش السياسي، في الوقت نفسه توزع كوادر اللجنة الأدوار فيما بينهم لإقامة الدروس الاسلامية على مستوى الأحياء سواءً في المساجد أو البيوت، وتصدى الحاج حسين الشامي بحكم اختصاصه لتدريس كتاب "إقتصادنا". وكان للجنة فرع نسائي نشط، ومن أجل استقطاب الجيل الناشىء تم تأسيس نادي الرسول الأعظم "ص" لكرة القدم. وتوسعت أنشطة اللجنة الثقافية في وقت مبكر الى خارج الشياح، وبات لها امتدادات في شمسطار ومعروب وكفرصير ومشغرة، وفي وقت لاحق أقيم مخيم تثقيفي مركزي باسم "مخيم الشهيد مطهري" في بلدة "فلاوة" في البقاع الشمالي في أيلول/ سبتمبر 1981 شارك فيه الإخوة من مختلف المناطق وتمّت دعوة سماحة الشيخ محمد يزبك لإلقاء محاضرة  من ضمن الموسم الثقافي كما أمّ الصلاة بالمشاركين في المخيم.

وكان الإعتماد على النفس عاملاً حاسماً في استمرار عمل لجنة الشياح، وفي المرحلة التي سبقت تأمين مقر خاص للجنة احتضنت بيوت الإخوة في الشياح الأنشطة الدورية للجنة وكانت الخيارات محدودة جداً في هذا المجال كون عدد لا بأس به من القائمين على عمل اللجنة سبق أن فقدوا بيوتهم في الدكوانة، فبالإضافة الى منزل أهل الحاج محمد فنيش كان منزل أهل الحاج حسين الشامي منطلقاً للأنشطة المختلفة، هذه الدارة أعادت بالذاكرة لأولئك الإخوة القادمين من الدكوانة ما كان لدارة الطيب الذكر المرحوم الحاج ابراهيم حجازي في الدكوانة من موقع في نفوسهم. ولعل أبرز الأنشطة التي احتضنتها دارة الحاج علي الشامي فبالإضافة الى الإفطارات، كانت اقامة درس التفسير الذي كان يلقيه المغفور له السيد محمد حسين فضل الله، بعدها انتقل هذا الدرس الى منزل المرحوم أبي عماد شمس الدين بالتنسيق مع حرمه السيدة أم عماد أطال الله في عمرها.

بات تأمين مركز للجنة الهمّ الأول لأعضائها، ومع استبعاد فكرة الإيجار من الأساس كان لا بد من اجتراح الحلول لتأمين الموارد اللازمة لشراء المركز، وانطلاقاً من مبدأ الاعتماد على النفس، وبروحية عالية واندفاع كبيرين لدى الأعضاء، تمّ تنظيم حملة متعدّدة الأوجه لتمويل هذا المشروع شملت تبرعات الأعضاء والخيّرين وعوائد بعض المشاريع الإنتاجية الصغيرة، كما تقرّر اقتطاع نسبة معينة من رواتب الأعضاء المنتجين بالإضافة للدور الفعال الذي لعبه الإخوة الأعضاء المغتربون سواءً من خلال التزام كل واحد منهم بتسديد "مقطوعة معتبرة" أو من خلال تحصيل مبالغ قيّمة من الحقوق الشرعية خاصةً أنه كان لدى القائمين على اللجنة إجازة من السيد الخوئي" قده" بقبض الحقوق الشرعية، وأسفرت هذه الجهود الجبارة بفترة قصيرة الى تحقيق الهدف المنشود وبات للجنة الشياح مقرها الخاص بها والكائن في حي المصبغة في الشياح.

بالطبع، كان لمنطقة الشياح بمقوماتها المتنوعة سماتها الخاصة بها التي قد لا نجدها في سائر أحياء الضاحية الجنوبية لاسيما في سنوات الحرب الأهلية، فبإعتبارها إحدى مناطق خطوط التماس، وهذا ما استتبع حضوراً وامتداداً للفصائل الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها بالإضافة الى أحزاب الحركة الوطنية بمشاربها المتنوعة من قومية ويسارية، لا بل إن رموزاً معروفة بإنتمائها للمعارضة الاسلامية ضد شاه ايران مثل جلال الدين الفارسي والشهيد محمد صالح الحسيني تردّدوا على الشياح وكانت لهم علاقاتهم بالعديد من الشخصيات الفلسطينية والوطنية والاسلامية.

ليس من المبالغة القول إن تفاعلاً متبادلاً قد نشأ بين هذه البيئة الجغرافية والبشرية المتنوعة وبين العاملين في لجنة الشياح وبالأخص كوادر اللجنة كان من شأنه صقل شخصياتهم وإثراء تجربتهم وبالتحديد على المستوى السياسي، فبتنا أمام نموذج مختلف عن "المؤمن التقليدي" المنكفىء والمنعزل في أغلب الأحيان ليتقدم نموذج آخر هو "المؤمن الواثق" الذي غرف من كتابات السيد محمد باقر الصدر ومشروعه "الاسلام يقود الحياة" وتسربت اليه عقلانية مالك بن نبي كما استلهم في الوقت نفسه اسلوب المحاججة من المفكر الهندي وحيد الدين خان صاحب كتاب "الاسلام يتحدى".

وحكمت هذه التوجهات أداء العاملين في لجنة الشياح وتجلّى ذلك بحسن التواصل مع المحيط بمختلف انتماءاته واتجاهاته، وبالطبع كانت الأولوية للتعاون ضمن الحالة الاسلامية حيث شكّلت لجنة الشياح قوة الدفع لقيام ائتلاف من أربع مكونات (اتحاد الطلبة والرابطة الاسلامية في الغبيري ولجنة المصيطبة ولجنة الشياح) تطورت صيغته التنظيمية على مر السنوات التي سبقت الإجتياح الإسرائيلي للبنان من مجرد لجنة للتنسيق وصولاً الى مرحلة النضج من خلال إنشاء إطار اللجان الإسلامية التي صار لها هيكل تنظيمي يتكون من مجلس شورى يضم 20 عضواً بمعدّل 5 مندوبين لكل لجنة بالإضافة الى هيئة تنفيذية تتكون من 8 أعضاء بمعدل عضوين لكل لجنة. وقد دافعت لجنة الشياح بكل قوة بأن يتشكل الإئتلاف من خمس مكونات بدلاً من أربع  ليضم لجان العمل الاسلامي وكادت مساعي تشكيل الإئتلاف أن تتعطّل أكثر من مرة نتيجة معارضة الشركاء لإقتراحنا، وفي النهاية استقر الأمر بالنسبة إلينا عن قيام إئتلاف اللجان الإسلامية من أربع مكونات مع استمرار التعاون الثنائي بين لجنة الشياح ولجان العمل الاسلامي.

وتزامن كل ذلك، مع انطلاق قصف الرعد في ايران حيث خرجت الجماهير الغاضبة في مظاهرات ضخمة في طهران والمدن الأخرى للمطالبة بسقوط الشاه واقامة الحكومة الاسلامية، وتردّدت أصداء هذه الاحتجاجات في شوارع بيروت للتضامن مع الشعب الايراني ونظّمت مسيرتان كبيرتان في العاصمة اللبنانية تحت اسم اللجان المساندة للثورة الاسلامية في ايران، انطلقت احداهما بمشاركة عشرات الآلاف من الأشخاص في يوم عاشوراء كانون الأول/ ديسمبر 1978 من ساحة الغبيري الى الجامعة العربية في الطريق الجديدة بمشاركة كوكبة من الشخصيات العلمائية من كافة الطيف الاسلامي بالاضافة الى العديد من رموز العمل الوطني والقومي العربي.

وتفاعلت اللجان الاسلامية بقوة مع الحدث الايراني بكل مجرياته، من انتصار الثورة وتأسيس الجمهورية الاسلامية الى شن العراق للحرب المفروضة على ايران في التوقيت الخطأ وفي المكان الخطأ، وواكبت اللجان هذه الأحداث عبر أنشطتها سواء الأنشطة الخاصة لكل لجنة على حدة أو عبر الأنشطة المشتركة  للجان الاسلامية مجتمعةً يحضرني في هذا المجال نشاطان بارزان:

1- معرض صور توثيقي أقامته اللجنة الثقافية في الشياح في متوسطة الغبيري الرسمية، كانت دارة الحاج علي الشامي منطلقا لتحضيره، وثّق هذا المعرض بالصورة  والشروحات مراحل انتصار الثورة والحرب المفروضة وكان معرضاً ضخماً وحاشداً في آن واحد، وتصدّرت صورة كبيرة للإمام الخميني"قده" وهي الشهيرة وهو ينزل من الطائرة الفرنسية في وسط المعرض مذيّلة ببيت من الشعر:
 
دخلت على تاريخنا ذات ليلة       فرائحة التاريخ مسك وعنبر
      
2- احتفال في حسينية الشياح في الذكرى السنوية الثانية لإنتصار الثورة الإسلامية في ايران أقامته اللجان الإسلامية، وكان الإحتفال أشبه بمهرجان جماهيري حاشد وتضمّن برنامج الإحتفال كلمات للراحلين سماحة السيد محمد حسين فضل الله وسماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين وممثل اللجان الاسلامية عن لجنة الشياح بحسب نظام المداورة المعمول به بين اللجان في مثل هذه المناسبات، وكانت الكلمه سياسية بامتياز فنّدت دعاوى النظام العراقي بشن هذه الحرب حيث جاء فيها:

"شعاراتهم الزائفة لن تخدعنا..
اليوم شط العرب وغداً فلسطين..!

ميناء العقبة يفضحهم.. ميناء العقبة الذي يقع في مرمى النار الإسرائيلية والذي تصل اليه امدادات السلاح الى العراق.. يفضحهم".
 
في موازاة ذلك، كانت التحضيرات اللوجستية تجري على قدم وساق لإفتتاح مركز اللجنة بعد اتمام عملية شرائه، وكنا قد حسمنا من قبل بعد نقاش مطوّل ـــ لا يتسع المقام لشرحه ـــ بأن تكون نواة المركز عبارة عن مكتبة اسلامية تكون بوابتنا الى الجمهور، وفي الوقت نفسه كان التوجه السائد لدينا من قبل بأن تحمل اسم الشهيد محمد الشامي  تكريماً له كونه أحد كوادر اللجنة. لكن المشهد برمته قد تبدّل ودخلنا في عصر جديد هو عصر الثورة الاسلامية مما دفع البعض عندنا لإعادة النظر بالتسمية بالرغم من ثقل العامل الوجداني علينا عموماً وبالأخص لدى الحاج حسين شقيق الحاج محمد الشامي، ووقع خيارنا على اسم الشهيد مطهري لمكانته في الثورة الاسلامية عموماً وموقعيته الخاصة لدى الإمام الخميني "قده"، وبالتأكيد لم يكن هذا الإختيار منفصلاً عن إحدى مفردات ثوابتنا وهي التمسك بقيادة العلماء.

وخلال الإجتماع الذي جرى التداول فيه لحسم موضوع تسمية المكتبة لم يستغرق النقاش الكثير من الوقت، وسرعان ما انحاز الحاج حسين الشامي الى صف إخوانه وتقرر أن تكون التسمية "مكتبة الشهيد مطهري"، ومنذ ذلك الحين صار هذا الاسم في التواصل بطاقة الهوية الجديدة للجنة الشياح كما كانت تعرف به اختصاراً.

افتتاح المكتبة وما يعنيه ذلك من وجود مركز مستقل، معطوفاً عليه التوقيت الذي حصل فيه ذلك في ظل الحماس العارم جراء انتصار الثورة الإسلامية، كل ذلك كان من شأنه أن أحدث نقلة نوعية في مسار عملنا ولا أبالغ إذا ما قلت أن هذه المرحلة كانت بمثابة إعادة تأسيس للمشروع برمته، وفق تقسيم مناسب للعمل فيما بيننا وتوزيع للأدوار لتلبية استحقاقات المرحلة. ففي حين كان الكوادر المقيمون يتولون تدريس الحلقات الدينية وادارة أنشطة العمل في الداخل وفي الوقت نفسه يتابعون العلاقات والأنشطة في اطار اللجان الإسلامية، في المقابل كان المغتربون في الخليج يقومون بجمع المال لرفد مسيرة العمل بما يلزم.

وحين واجهتنا معضلة انتظام العمل في المركز وديمومته وهذا يتطلب ادارة فاعلة وحضوراً مباشراً على الارض كما يقولون، تم تجاوز هذه العقبة من خلال تصدي احد الاخوة العاملين من الذين كان يترددون للعمل في الخليج للقيام بهذه المهمة التي يمكن ان نسميها بلغة اليوم "التفرغ التطوعي".

لم يطل الأمر كثيراً حتى وقع الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، واحتلت القوات الغازية الجنوب اللبناني واجتازت نهر الأولي، ووصلت هذه القوات في بضعة أيام الى مشارف بيروت في خلدة قامت بالتصدي لها قوات من منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها في الحركة الوطنية والقوات السوريّة بالإضافة الى مقاتلي حركة أمل واللجان الإسلامية ولجان العمل الاسلامي.

لا يتسع المقام لعرض تجربة اللجان الاسلامية خلال فترة الاجتياح والحصار فهذا له محل آخر، إلاّ أنه لا بد من الإشارة ولو سريعاً الى حقيقة الدور الذي إضطلعت به اللجان الاسلامية من التصدي العسكري بدءً من المواجهة في خلدة وصولاً إلى الإنتشار العسكري في الكمائن المتقدمة في الضاحية الجنوبية والصمود بوجه الآلة العسكرية الإسرائيلية التي حاصرت بيروت وضاحيتها الجنوبية قرابة الثلاثة أشهر.

لا تقاس التجربة العسكرية للجان الإسلامية في هذه المرحلة بالمعايير العسكرية فقط، ففي ظل شعور عام بالهزيمة الذي ساد ليس في لبنان فحسب، بل في عموم الشارع العربي حيث بدا للكثيرين أن منطقتنا العربية دخلت في العصر الإسرائيلي، فإن الدور التعبوي الذي إضطلعت به اللجان الاسلامية كان فائق الأهمية لاستنهاض بيئتها ومجتمعها، وبالتأكيد لم تكن اللجان الإسلامية لتنطلق من فراغ ولا  كانت هي وحدها التي تصدّت لمجابهة العدوان وافرازاته، فنداءات الامام الصدر بأن "اسرائيل" شر مطلق كان صداها لا يزال يتردد في كل الجنبات وتنغرس في وجدان شعبنا، ومواقف العلماء الأعلام في لبنان وفي مقدمهم سماحة السيد محمد حسين فضل الله بالدعوة الى الصمود والمقاومة وعدم الانكسار أمام العدو، وتوّج كل ذلك بدخول ايران الاسلام بقيادة الإمام الخميني "قده" في معادلة الصراع وقوله الفصل بوجوب مقاومة الاحتلال وصولاً الى تحرير القدس.

هذا الاستنهاض فعل فعله بشكل مذهل حين خرج فارس الجنوب أحمد قصير من بين ركام العدوان ليدك مقر القيادة الإسرائيلية في صور في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1982 بعد أقل من شهرين ونصف على انسحاب آخر دفعة من المقاتلين الفلسطينيين من لبنان.

كانت "مكتبة الشهيد مطهري" طيلة فترة الإجتياح والحصار كمكوّن أساس من اللجان الإسلامية في قلب الحدث، وكان مقرها مع مقر الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين بمثابة غرفة عمليات موحدة لكافة الأنشطة التي تنطلق من مركزين، (المكتبة في الشياح والإتحاد في الغبيري)، وعلى صعيد الهيكل التنظيمي للجان الإسلامية وبسبب الشغور في رئاسة مجلس شورى اللجان شغل هذا الموقع ممثل من "مكتبة الشهيد مطهري" فيما تولى الحاج حسين الشامي رئاسة المجلس العسكري للجان الإسلامية بالإضافة الى عضويته في الهيئة التنفيذية للجان الإسلامية. ويتذكر كل من عاصر تلك المرحلة، فكانما أطلق العدوان الاسرائيلي كل كوامن التحدي والقوة في بيئتنا، كانت "مكتبة الشهيد مطهري" بمثابة خلية نحل لا تهدأ بالرغم من قساوة الحصار، كل ينطلق باندفاع الى عمله، كان الفرع النسائي في أعلى حالاته من الحضور والجهوزية، وينطبق الأمر نفسه على فتية نادي (الرسول الأعظم) "ص" الذين كانوا يقسّمون أوقاتهم بين حراسة الثغور من جهة والتواجد في المكتبة من جهة أخرى، ومنهم من التحق فيما بعد بركب الشهداء مثل الشهيدين الدحنونين محمد وأحمد عبد حجازي.

كانت الشهادة أمنية تراود كل واحد من الإخوة الذين قرروا الصمود والدفاع عن عاصمتهم بوجه الغزاة الصهاينة، لكن هذا الشرف ناله مهاجر مجاهد في جبهة الشرق حيث كانت تستعر الحرب العراقية - الإيرانية، ففي إحدى ليالي الحصار من أواخر شهر تموز كنا في اجتماع عمل ومعنا الشهيد محمد بجيجي، تلقينا نبأ استشهاد الشيخ أنيس جابر. لا زالت صورة الشهيد محمد بجيجي ماثلة أمامي لا تبرح ناظري حيث ارتسمت على وجهه كل علامات الرضا والاستبشار وردّد لسانه عبارات التهاني والتبريكات بالشيخ الشهيد.

بالرغم من كل ظروف الانكسار التي خيّمت على البيئة الوطنية في لبنان بعد دخول القوات المتعددة الجنسية لتثبيت مفاعيل الغزو الصهيوني للبنان، لم يتراجع زخم العمل  في "مكتبة الشهيد مطهري" ويعود الفضل في ذلك لتبنّي القائمين على أمور المكتبة سلسلة من الأنشطة والبرامج ذات الطابع الاستقطابي ما جعل مركز اللجنة يعج بالحركة والنشاط وهذا ما لفت أنظار المخبرين التابعين للأجهزة الأمنية لنظام الرئيس أمين الجميل والمبثوثين في الأحياء فأقدم أحد فروع هذه الأجهزة على مداهمة المكتبة في العام 1983 وتم اقتياد المرحوم حسن زعرور وهو أحد الشبان الناشطين في المكتبة الى أحد المراكز الأمنية الرسمية وجرى التحقيق معه وتمحورت أسئلة المحققين حول أنشطة المكتبة وعلاقاتها ومصادر تمويلها كما تركزت أسئلتهم بشكل خاص حول كوادر المكتبة والناشطين فيها.   

ما بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 1982 ليس كما قبله، طويت صفحة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وبدا أن فصلاً جديداً في الصراع مع العدو الصهيوني قد افتتح، حيث يرزح جبل عامل تحت الإحتلال، وبات "الشباب المؤمن" على تماس مباشر مع هذا العدو ومن ضمنهم الإخوة في "مكتبة الشهيد مطهري". واندفع الحاج حسين الشامي مع إخوة آخرين معه بالتعاون مع الاخوة في لجان العمل الإسلامي لتأمين وتوريد السلاح والعتاد وإرساله الى الجنوب بالإضافة الى مواكبة تأهيل الشبان في "مكتبة الشهيد مطهري" وتطوير مهاراتهم العسكرية، وتزامن ذلك كله مع قدوم رسل الإمام الخميني "قده" الى البقاع وإقامة دورات للتدريب العسكري التي التحق بها الإخوة في المكتبة منذ الدورات الأولى، بموازاة جهودهم الحثيثة لجمع مختلف المكونات من هيئات علمائية ولجان اسلامية وشخصيات من أمل الإسلامية لإطلاق إطار اسلامي جامع في لبنان قادر على النهوض بالمهام الجسيمة التي فرضها الغزو الإسرائيلي للبنان.

وفي كل مراحل هذه المخاض الدقيق، كان الاخوة في مكتبة الشهيد مطهري ومن بينهم الحاج حسين الشامي بحضوره الفاعل، ومعه سائر الاشقاء في اللجان الاسلامية في صلب الجهود المباركة التي كانت تبذل لتقريب وجهات النظر وتذليل العقبات لجمع المكونات والشخصيات المؤمنة والناشطة والملتزمة نهج الإمام الخميني (رض) وخط ولاية الفقيه في اطار واحد وتكللت هذه المساعي الدؤوبة بالنجاح بالولادة الميمونة لحزب الله كتشكيل مقاوم على الساحة اللبنانية يضع نصب عينيها تحرير الارض اللبنانية وصولا الى تحرير القدس الشريف.

حاج حسين.. بورك عطاؤك الذي يستمد رونقه من مجد البدايات ومسار الانجازات.

حسين الشاميمكتبة الشهيد مطهرياللجان الاسلامية

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف