معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

راية واحدة.. صيحة الله أكبر المدوية
13/05/2023

راية واحدة.. صيحة الله أكبر المدوية

أحمد فؤاد

تعرفنا اللغة العربية الثرية على كلمة قائد بأنها "فاعل"، وتعني القيادة الريادة والسبق وتصدر المسيرة، أما اصطلاحًا فهي قدرة استثنائية لشخص على تولي مهام الإدارة والتأثير في الآخرين وتوجيه السلوك والاستفادة من الإمكانيات والملكات الفردية لمجموعة بشرية، وتعزيزها، وتسخير مجهود الكل لصالح الأهداف العليا التي يؤمنون بها، من أقصر الطرق وأكثرها ملاءمة للظروف الموضوعية والتحديات القائمة أو المتوقعة.

لكن في حياة الأمم لا تطلق تلك الكلمة الرنانة إلا بحقها، وحقها هو أمة وجدت نفسها في رجل، ورجل حمل أمانة أمته بين ضلوعه، من يجلب لنا الآمال وندفع به الآلام، السند، جدار الصخر الذي يمنح الأمان والثبات وقت أن تضرب عواصف الزمن، الصاعق والمفجر للقدرات الإنسانية الخلاقة لجماهير شعبه وأمته، البرق الذي يتألق في السماء كلما تقطعت السبل أو تاهت الأقدام، القائد في حياة أمة هو صيحة الله المدوية يوم الفتح، صرخة الحق والنور في وجه الظلمات الكثيفة، الطاقة غير المنتهية على العمل، المعجزة حين تكون حركة يومية وفعل الله الخلّاق في الأرض وفي القلوب المؤمنة.

ليس غريبًا أن تكون كل خطابات سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، هي تتويج أو افتتاح للحظات فارقة في عمر الأمة العربية، القائد الذي قرأ واقعنا منذ سنوات طويلة، أعاد في لحظة صدام مفصلية من عمر قضية العرب الأولى والمركزية، فلسطين، قراءة معطيات الصراع الراهن، والذي لا يتوقف عند المنطقة فحسب، وإنما يمتد ساخنًا أو باردًا بامتداد قارات العالم ومحيطاته، وكما تترابط قضيتنا مع قضايا أمم أخرى نهضت لموجهة الشيطان الأميركي، فإنها أكدت لنا "وحدة الراية" ووحدة المصير.

على العهد جاء الخطاب، قويًا حاسمًا شاملًا، حاملًا رسائل واضحة لا لبس فيها للنفس والشقيق والعدو، واضعًا نقاط فهم وإدراك على حروف سيالة بالتغيرات والأحداث الكبرى، ومحددًا للموقف الصحيح  ــ والثابت كذلك ــ للمقاومة من أمتها ومن قضيتها ومن الاشتباك الدامي الجاري اليوم في فلسطين.

إذًا كانت فلسطين في قلب خطاب السيد وقلبه، وهي البوصلة التي يبنى عليها تقدير الموقف وحسابات الحركة، التحية واجبة للمقاومة الفلسطينية البطلة، ولتضحياتها الهائلة في المعركة الحالية، وللقادة الذين قدموا لأخوانهم المثل والقدوة، ومضوا إلى طريق الوسام الإلهي الأعز والأغلى، الشهادة، ووقفة الإشادة ضرورية لليد الفلسطينية التي تجابه الآلة العسكرية للكيان، وتمرغها في وحول الذل والهزيمة، ولأهلها الذي ما تركوا أبدًا واجبهم المقدس في الجهاد والصبر.

وعن فلسطين جاء الموقف حادًا كسيف ضياء يمزق الظلام، ويرسل كلمته واضحة إلى الكيان وحكومته المجرمة، وأكد الكريم بوضوح ونبل إن المقاومة حاضرة لتقديم العون للأشقاء في فلسطين ولمقاومتهم في حدود الممكن، لكنه لم يستبعد أن ينخرط حزب الله في ما هو أكبر وأخطر إذا ما استدعى الظرف ذلك، وقال سماحته نصًا: "في أي وقت تفرض المسؤولية علينا القيام بأي خطوة أو خطوات لن نتردد، إن شاء الله".

بدأ الكيان المجرم الجولة الجديدة من الاشتباك، كما بدأ هو إثمه وعداونه بحثًا عن دماء فلسطينية جديدة تفرش لنتنياهو طريقًا إلى حكومة مستقرة، وهذا هو ديدن الكيان، إذ تغطي الطريق إلى كرسي الحكم دماء آلاف وآلاف من الأبرياء والأطفال والنساء العرب، منذ دير ياسين وحتى قانا وصولًا لغزة، وأجمل سماحة السيد قراءة المشهد في الكيان بأن المجرم نتنياهو اندفع إلى عدوانه لتحقيق 4 أهداف هي: استعادة وترميم الردع، والهروب من المأزق الداخلي، ومعالجة التفكك الحاصل في ائتلافه الحكومي وتحسين وضعه السياسي والانتخابي.

لكن الخيبة كانت في الانتظار، وشعب البطولات أبى إلا أن يكرر صموده البطولي المذهل، ويستمر لأيام في قصف الكيان بأنواع ومديات جديدة من الصواريخ، لها أسماؤها ذات الدلالة البلاغة على إيمان وثقة خالصين بالله، ثلة من المحاصَرين اللاجئين الملاحقين المنهوبين المحرومين قهروا التكنولوجيا الأحدث للتسليح على وجه الأرض، وأحالوا القبة الحديدية ومقلاع داوود وغيرها إلى "خردة" لا تشفع ولا تنفع، ولعل الصاروخ الذي دك رحوفوت بتل أبيب كان ذا تقنية أعقد مما قبله، مما أعجز دفاعات الصهاينة الصاروخية.

وعن الأمل، الذي تبشرنا به وتمنحنا إياه طلة سماحة السيد، فقد بشر بأن حسابات نتنياهو الخاطئة قادته إلى هذا الوضع، فسياسة الاغتيالات الجبانة والخسيسة للقادة تمنحهم فرص الشهادة والكرامة، وما أعظمها من منزلة إلهية تهفو إليها النفوس، دفاعًا عن الإيمان وعن الدين وعن الأهل والوطن، وفي هذه النقطة تحديدًا كان تأكيد سماحة السيد على: أن "المقاومة الفلسطينية لم تضعف ولم تتخلخل قدراتها، بالرغم من كل الاغتيالات التي طالت قادتها، بل على العكس تمامًا، فقد أعطت هذه الدماء الزكية دفعًا للأمام".
خطط نتنياهو لعملية كبرى في وقت ضيق، يحقق من خلالها هدفًا غاليًا واحدًا هو "استعادة الردع الصهيوني"، وبيّن السيد أن القرار الصهيوني كان الاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي، وتحييد باقي الفصائل، وإحداث فتنة في بيئة المقاومة، وضرب البنية القيادية لسرايا القدس، وتفكيك القيادة المباشرة للقوة الصاروخية.

كل أهداف نتنياهو التي أشعل النار من أجلها قد ارتدت إلى عتبات كيانه، والصواريخ الفلسطينية صارت فقرات ثابتة في تل أبيب، صباحًا وظهرًا وعصرًا ومساءً، والإحساس القاهر بالحزن النبيل على الشهداء والقادرة تحول إلى طاقة جبارة وقدرة على الصمود والقتال إلى أمد غير منظور، وبالتالي وضع الكيان أمام حقيقته الوحيدة، وهي إنها يقاتل وظهره إلى العراء، وإنه إذا كان أداء جيشه الكبير وسلاحه الأرقى والأحدث أمام غزة، فكيف ستكون صورته المنتظرة في حرب كبيرة، وقادمة حتمًا.

في أعز ذكرى عربية في العصر الحديث، أول وأغلى وأكمل نصر عربي على العدو الصهيوني في أيار/ مايو 2000، خاطب سماحة السيد حسن نصر الله جمهور المقاومة وبيئتها وأمتها العربية، بأعذب خطاب لقائد منتصر في التاريخ، لم تسكن النشوة والإحساس بالفخر القائد الحقيقي، ولم يتسلل إلى نفسه كبرياء النصر المؤزر، وهول ما تحقق على الأرض، إذ لم يسبق أن انسحب الكيان عن أرض عربية، لكنه في الجنوب كان يهرب أمام حزب الله، في مشاهد صنعت ذاكرتنا وبنت قلعة ثقتنا في سيد الوعد الصادق.
في هذا الخطاب، يوم 25 أيار/ مايو 2000، وفي مدينة بنت جبيل المحررة، قال السيد نصًا وكأنه يقرأ من كتاب صدق: "للشعب الفلسطيني، الخيار عندكم والنموذج ماثل أمام أعينكم، المقاومة الصادقة والجادة يمكنها أن تصنع لكم فجر الحرية. يا إخواننا وأحباءنا في فلسطين.. أقول لكم يا شعبنا في فلسطين إنّ إسرائيل هذه التي تملك أسلحة نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، والله هي أوهن من بيت العنكبوت!".

توازن الردع

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف