نقاط على الحروف
اعترافات قرصان اقتصادي
أحمد فؤاد
يمكن لأي متابع مهتم أن يجزم، بقدر من اليقين، أن العالم العربي اليوم يمر بأزمة عجز عن إدارة واقعه، وهي أزمة عميقة وثقيلة، لا تمس الحاضر وحده، لكنها تهدد أيضًا المستقبل، ويمكن ببعض القراءة والمعاينة والفحص والتجربة معرفة أن الخيارات التي قنعت بها ــ أو فرضت ــ على النظام الرسمي العربي هي بيت الداء وأصل الجرح، فيما يأتي التدخل الأميركي بالفرض والإجبار تاليًا في صناعة واستفحال الكارثة القائمة.
لا فرق ــ حقيقي ــ يمكن أن تشرحه الأرقام ونسب التراجع المذهلة والأزمة المعيشية القاسية، بين الدول العربية، حال لبنان المستهدف والمهدد وأول المطلوبين على لائحة الخارجين عن الزمن الأميركي يستوي مع حال سوريا التي ضربتها كارثة طبيعية هائلة، جعلت من فكرة تجاوز حصار "قيصر" الأميركي أمرًا مستحيلًا في الأفق المنظور، ثم يستوي مع حال دول عربية أخرى بعيدة عن ميدان الصراع الأول في المنطقة، وهي تونس التي تمر بأسوأ فتراتها، ثم لا يبتعد كثيرًا عن دولة قررت مقدمًا أن تسلم مقدمًا ومجانًا "99% من أوراقها إلى واشنطن"، وفق تعبير مؤسس عصر ذلها وسقوطها الحالي أنور السادات.
إن قراءة ومحاولة فهم السياسة الأميركية، في هذا الظرف بالذات، أقرب إلى صرخة رفض، وعمل مقاوم صرف، إذ إن الوعي بما جرى ويجري هو مفتاح أي خطوة عاقلة تحملنا بعيدًا عن مسار القطار القادم بسرعة البرق، ولو زحفًا وخطوة بعد خطوة، لتجنب مصير مأساوي باتت ملامحه تتضح وتدق أجراس الإنذار المفزعة ونواقيس الخطر.
في العام 2004 أصدر الكاتب الأميركي والخبير الاقتصادي "جون بيركنز" كتابه الأشهر، "اعترافات قرصان اقتصادي.. الاغتيال الاقتصادي للأمم"، مقدمًا فيه أثرى تجربة لفهم ما يحدث يوميًا، وإدراك كيف وصلنا إلى الوضع المعيشي الذي صار فيه الدولار هو صاحب الكلمة الأولى والحقيقية في واقع أيام كل مواطن عربي، والحديث الذي يبث الرعب في القلوب، ويصدر القلق والارتعاش إلى مفاصل الجسد.
ويُلخص "بيركنز" مسمى هذه الوظيفة المرموقة ــ والمخيفة ــ في الولايات المتحدة، في الصفحة 23 من كتابه، بقوله: "إن ما نجيد عمله نحن، قراصنة الاقتصاد، هي أننا نصنع إمبراطورية أميركية عالمية، باستخدام وسائل القوة الاقتصادية ممثلة في المؤسسات المالية العالمية، أو الأميركية بشكل أدق، في خلق ظروف تؤدي لإسقاط الدول في مدار هيمنة واشنطن، أي الخضوع لحكم " الكوربوراتية" أو المجمع الصناعي ـ المالي الأميركي الذي يدير الشركات الكبرى والبنوك والحكومة"، ويوضح "بيركنز" أن عمل القرصان يشابه إلى حد كبير عمل رجال المافيا، حيث يقدمون المال والخدمات مقابل السيطرة وبسط النفوذ، وأهم عناصر نجاح الخبير الاقتصادي هو منح القروض للدول الصغيرة وربطها بعقود مع شركات أميركية، بحيث لا تخرج النقود حقيقة من البنوك الأميركية، بل تنتقل من حسابات البنوك في واشنطن إلى مكاتب الشركات الهندسية في نيويورك أو هيوستن أو سان فرانسيسكو. ويحقق قرصان الاقتصاد أكبر نجاح عندما تكون القروض كبيرة لدرجة تضمن عجز الدولة المستدينة عن سداد ما عليها من ديون في ظرف سنوات قليلة. آنئذ نسلك سلوك المافيا ونطلب رطلا من اللحم مقابل الدين، إشارة إلى مسرحية تاجر البندقية لشكسبير الذي طلب قطع رطل من لحم المدين العاجز عن السداد مقابل الدين".
الخطير في كتاب "بيركنز" إنه عمل سابقًا في المنطقة العربية، في السعودية تحديدًا، واشتبك في مفاوضات وعقود تخص العراق قبل الاحتلال في 2003، ويقول "بيركنز" إن الهدف الأساس لوجوده كان توريط الدول العربية، التي خرجت بفوائض مالية هائلة عقب طفرة أسعار النفط في 1973، في توقيع عقود بنية تحتية هائلة القيمة، بحيث يستمر استنزاف مواردها الطبيعية بشكل شبه مجاني من جانب الصناعة الأميركية، وشملت أعماله القيام بترتيب عقود إنشاء وإدارة وصيانة مشروعات البنية التحتية، وبناء محطات لتوليد الكهرباء، ومد طرق رئيسية، وإنشاء موانئ ومطارات ومساكن ومدن جديدة ومحطات مياه وتحلية ومد خطوط الخدمات العامة والاتصالات، في النهاية ذهبت عوائد البترول إلى دعم الشركات الأميركية والاقتصاد الأميركي، فيما لم تنجز الدول العربية النفطية أي خطوة حقيقة في بداية طريق التصنيع أو حتى الحصول على قيمة مضافة من ثرواتها بإقامة مشروعات بتروكيماويات ضخمة، كان من الممكن إنجازها وقتذاك بسهولة ويسر.
وفي صفحات الكتاب وبين سطوره الحكاية الكاملة لقصة الهيمنة الأميركية على العالم، وأدواتها الفاعلة الرئيسية، فكل حركة أميركية تقوم على أربعة أضلاع، صندوق النقد والبنك الدوليين، بحقيقة نظام إنشائهما والسيطرة الأميركية الكاملة على القرار فيهما، وامتلاكها لقدرة فريدة وجبارة في تسخير كل مفاصل وأطراف المؤسستين النافذتين لتمرير قرارها وفرض إرادتها وحتى رغباتها، ثم النخب المتغربنة المتغربة، التي تضمن للدول أقصر طريق نحو الهلاك، وتقدم الخسائر المجانية أفطارًا شهيًا على مائدة صانع القرار الأميركي، والضلع الرابع تمتعها بأقوى ورقة على الكوكب "الدولار"، الذي صار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عملة الاحتياط الدولية.
في الواقع فإن هذه المكانة العالمية للدولار منحت واشنطن 3 أوراق أساسية في لعبة السيطرة الإمبراطورية غير المسبوقة على الكوكب أو في التاريخ الإنساني، وهي أنها تستحوذ على الستر والمنح والمنع، فالطباعة دون وجود غطاء ذهبي تعطيها دائمًا فرصة تغطية عجز الاقتصاد المستمر منذ الثمانينات من القرن الماضي بالمزيد من طباعة أوراق ملونة، بلا قيمة حقيقية، تحصل بها على سلع وخدمات وموارد أولية من كل دول العالم تقريبًا، وتبلغ قيمة العجز الأميركي 108% من الناتج المحلي الإجمالي لها، ما يزيد عن 20 تريليون دولار، أكبر 4 مرات من كل ديون الدول النامية والصغيرة، وهو عجز مستمر ويرتفع، رغم كل هذه السرقات الفاضحة والجرائم التي ارتكبتها وروعت بها شعوبًا ودولًا لا تحصى.
الدولار أيضًا يعد وسيلة منح أو منع، طبقًا لما تقتضيه السياسة الأميركية تجاه الدول والأنظمة، فبإمكانها أن تطبع الأوراق وتقرضها إلى أي دولة بأي شروط شاءت، وفي الوقت ذاته، وكعملة مرجعية عالمية تحتاج إليها الدول لضبط حساباتها وتجارتها الخارجية، فإن العقوبات التي تفرضها واشنطن على أي بلد أو كيان مضمونة التنفيذ سلفًا، وهي في عملها هذا تشبه الحصار الخانق، القادر على تدمير شامل لاقتصاد الدولة المستهدفة، وإسقاط شعبها في فخ طريق آلام لا تنتهي، ونقل الحرب إلى داخل مدنها وفي شوارعها، وفي كل بيت فيها.
قراءة الكتاب المهم تبدو ضرورية، لأن الحرب الأميركية الجارية تستهدف أول ما تستهدف إسقاط ذاكرة الأمة وتغييب إرادتها وتخدير عقلها، تستهدف زرع اليأس والإحباط ونشر مناخ السواد في كل الواقع اليومي للناس، هذا هو أول شروط العمل الأميركي المباشر، فالكل يتذكر كيف كانت أيام الغزو الأميركي للعراق وكأنها نزهة أو انتقالا للدبابات من مدينة إلى مدينة دون عناء، بعد أن تكفلت سنوات الحصار الطويل المدمي وغباء النظام العراقي السابق في تفتيت إرادة القتال بالبلد، ونشر الهزيمة التي بدت حينها قدرًا محتومًا لا مناص منه.
إن السياسات العربية، الرسمية على الأقل، في مواجهة الولايات المتحدة وفكرة الهيمنة بحد ذاتها، قد تطوعت أولًا بنزع سلاحها وحصر خياراتها، ثم رضيت قاصدة أو مجبرة على أن تخلع ملابسها، ثم فرطت مجانًا في ثقتها بنفسها وبكل إمكانياتها وفرصها، وهي بالتالي قد فقدت عزة الكبرياء، ولو كان شكليًا إعلاميًا، أو خارج الغرف المغلقة، والأنظمة العربية في تجربتها مع الولايات المتحدة وبحكم تكوينها كانت إما خائفة أو راغبة، وبين رهبة الخوف ونشوة الرغبة سقطت مقدمًا، دون الحاجة إلى مؤامرة محبوكة أو مخططات للإخضاع.
ما هو الحل، هذا هو سؤال البقاء وليس المستقبل، فالواقع يبدو عصيًا على كل فكرة ومنيعًا أمام أي حل، في الحقيقة فإن سماحة السيد حسن نصر الله، سبق له ان طرح منذ سنوات فكرة الجهاد الزراعي، كأول طريق حقيقي ووحيد يضمن الخروج من شرنقة الهيمنة الأميركية، فإن شعبًا يملك غذاءه لا يمكن بالبداهة تهديده بمنع لقمة عيشه، كما أن الاتجاه شرقًا هو الآخر عنوانًا يصلح للزمن الحالي، خصوصًا مع الانهيار الذي تعانيه العملات المحلية في مواجهة الدولار، الصين وروسيا قد بدأتا منذ مدة في ضخ الدماء إلى فكرة التبادل والتجارة بالعملات المحلية، حتى الهند الصاعدة بدأتها الأسبوع الحالي مع تنزانيا، وهي ــ أي الهند ــ أكبر شركائها التجاريين، وتواصل نيودلهي المساعي مع عواصم إفريقية أخرى لتمرير اتفاقيات مشابهة، تضمن تقليل الاعتماد على الدولار، والحل أمام لبنان ليس في واشنطن، ولا في الغرب كله، بل في إرادة تحريك العقل تجاه الشرق الصاعد، مهما طالت المسيرة أو وضعت العوائق.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024