معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

حصار لبنان ومجتمع الزومبي الأمريكي
15/09/2022

حصار لبنان ومجتمع الزومبي الأمريكي

محمد أ. الحسيني

يروي التاريخ عن مجاعة أصابت لبنان خلال الحرب العالمية الأولى، بدأت مع اجتياح الجراد للمنطقة في عام 1915 وراح ضحيتها نحو مئتي ألف مواطن، وانتهت تدريجياً بإعلان ما يسمّى "دولة لبنان الكبير" عام 1920. البريء الوحيد من هذه المجاعة كان الجراد الذي التهم المحاصيل ومضى إلى حال سبيله، فيما سارعت أنظمة الهيمنة إلى تحويل لبنان إلى ساحة صراع لم تخلُ من تواطؤ المصالح والتجاذبات الدولية، وكان لبنان الضحيّة.

حصار خارجي وصفقات داخلية

يروي التاريخ أن الأنظمة "المتحاربة" تواطأت على فرض حصار خانق وشامل على لبنان، حيث منعت فرنسا وبريطانيا وصول شحنات المواد الغذائية الضّروريّة من حبوب ومؤن من تركيا ومصر، بذريعة الحيلولة دون وقوعها في أيدي القوات الألمانية والعثمانية، وطال الحصار الصيادين اللبنانين الذين مُنعوا من الوصول إلى البحر أو حتى استخراج الملح، في حين عمد العثمانيون والألمان إلى عقد الصفقات المالية مع سماسرة الجوع لشحن الحبوب من سوريا وبيعها بأسعار خيالية، وكانت النتيجة أن اللبنانيين تحوّلوا إلى البحث عمّا يسدّون به جوع أطفالهم بدلاً من تزخيم الحركات الثورية التي تجاهد لتحرير لبنان من الاحتلالات الراهنة والوافدة.

سماسرة الجوع

ينقل التاريخ عن القنصل الألماني في بيروت موتيوس (Mutius) فحوى محادثة لبايارد دودج (Bayard Dodge) المسؤول عن الإغاثة الأميركية، وأصبح فيما بعد رئيساً للجامعة الأميركية في بيروت، أجراها مع التاجر ميشال سرسق أصرَّ فيها على بيع طحين اشتراه بـ 40 قرشاً بـ 250 قرشاً، فيما تخلّى بعض الملّاكين عن أراضيهم مقابل الحصول على برتقالة. أما الأب أنطون يمّين فيسمّي، في أعماله الأدبية، محتكرين وانتهازيين ومتعاونين من العائلات "المرموقة" في بيروت والجبل، باتوا الآن من أصحاب الجاه والشهرة بينما كانوا ينتمون إلى الطبقة الراقية في عهد الانتداب، من أمثال آل سرسق وأصفر وبسترس.

لبنان والاستقلال الملتبس

انتصرت دول "الحلفاء" على دول "المحور"، ودخلت قوات الاحتلال الفرنسي دمشق، وحلّت الحكومة العربية فيها وطردت الملك فيصل. وآنذاك طالب البطريرك الماروني الياس الحويك بتوسيع دولة "لبنان الصغير" عبر ضمّ مناطق البقاع والشمال، باعتبار أنها يمكن أن تشكّل مستودعاً طبيعياً للقمح في حال حصول مجاعة جديدة. وسرعان ما استدعى الجنرال غورو رجال الدين والسياسة والإقطاع من لبنان وملحقاته الجديدة، إلى "قصر الصنوبر" في بيروت وأعلن قيام "دولة لبنان الكبير"، وقال: "إن الفتية الفرنسيين الذين قدموا أرواحهم في سهل ميسلون هم عرّابو استقلالكم". وانشغل المحتلّون الجدد - بعدما ركنوا إلى نجاح سياسة التجويع في تحقيق أهداف التوسّع - بترتيب الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، وتحضيرها لمرحلة ما بعد احتلال فلسطين وإنشاء الكيان الصهيوني.

هل يعيد التاريخ نفسه؟

هكذا روى التاريخ القريب إحدى أخطر الحقبات من عمر تشكيل الدولة اللبنانية، وتستعاد دورته اليوم بالسياسة والأساليب نفسها، ومن قبل الأطراف نفسها بقيادة أمريكية وإضافات عربية – خليجية. معلوم أن تاريخ لبنان زاخر بالحقبات المتأزّمة والصراعات المستمرة، التي اندلعت ولا تزال على تثبيت هويته وانتمائه العربي، منذ ما قبل احتلال فلسطين مروراً بالحرب الأهلية المدمّرة وصولاً إلى الواقع الراهن الذي يهدّد فعلياً بوصول لبنان إلى الهاوية، إلا أنه اليوم يمر بأسوأ أزمة وجودية في تاريخه، صنّفها تقرير للبنك الدولي بأنها واحدة من أشدّ ثلاث أزمات في العالم منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، حيث فقدت العملة اللبنانية 90٪ من قيمتها، وبات 80 % من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر وارتفعت الأسعار إلى 500 في المئة، وسط إفلاس سياسي ومالي، وفقدان الحد الأدنى من المقوّمات الحياتية الضرورية، ممّا يهدّد بانعدام حقيقي للأمن الاجتماعي والمعيشي.

الحصار لفرض التطبيع

يركّز خبراء المال والاقتصاد في الداخل والخارج على طرح استراتيجيات ومخططات قصيرة وطويلة الأمد لتعافي الوضع الاقتصادي في لبنان، سواء لجهة ضبط وإصلاح السياسة النقدية والمالية وأسعار الصرف، أو لجهة هيكلة الدين الداخلي والخارجي وتنظيم القطاع المالي والمصرفي، إلا أن الكلّ أو غالبية هذا الكلّ تجاهل أن السبب الأساسي للأزمة، وهو إلى جانب الفساد في الإدارة السياسية والمالية للبلاد، يتمثّل بالحصار الأمريكي – الخليجي الذي لم يعد يخفي أهدافه التدميرية للبنان عقاباً له على هزيمة "إسرائيل" والوقوف في وجه القرار الأمريكي بإلحاق لبنان بركب التطبيع مع العدو الصهيوني.

المقاومة صمام الأمان

هل سينجح الضغط الغربي – الخليجي في استعادة دورة التاريخ، ويعيد تشكيل دولة لبنان الجديد؟! بات من الواضح أن السياسة التي يعتمدها الأمريكيون ومعظم العرب بالتجويع والضغط المعيشي والتأزيم المالي والاقتصادي تهدف إلى ضرب الاستقرار الداخلي اللبناني باتجاه إسقاط الدولة، ودفع الوضع باتجاه الفوضى الشاملة، وصولاً لإعادة لبنان إلى أجواء الحرب الأهلية، وتراهن على أن الفوضى المنظّمة حالياً ستصبح عاجلاً أم آجلاً فوضى متفلّتة من العقال الاجتماعي والقانوني، وبذلك سيتحوّل لبنان إلى بؤرة مفتوحة على كل احتمالات الانهيار السياسي والأمني.

إنه مجتمع الزومبي الأمريكي الذي يراد تشريعه وتسويقه في لبنان. وسماسرة الجوع الذين عمّقوا الأزمة في بدايات تشكيل الدولة اللبنانية لا يزالون هم أنفسهم بأسماء وانتماءات مختلفة، يمعنون في لعب أدوارهم الخبيثة كأدوات داخلية ضد مصلحة لبنان الدولة والشعب والمؤسسات. أما على المقلب السياسي والأمني فإن المعادلات قد تغيّرت، والضغوط التي لم تستطع أن تقمع الثورات فيما مضى من عمر لبنان ضد الاحتلال الأجنبي، لن تستطيع أن تضعف أو تؤثر في خيار المقاومة التي حمت لبنان وحرّرت أرضه، فكيف وهي باتت اليوم قادرة على رسم المعادلات الجديدة الإقليمية والدولية، وفرض إرادة الدولة اللبنانية على ما يسمى المجتمع الدولي الذي يهدف إلى نهب ثرواته في البحر والبر؟ ومهما روّجت وسائل الإعلام والدعاية المحلية والخارجية لخراب الهيكل اللبناني، إلا أن المقاومة ستكون كما كانت دوماً صمّام الأمان للبنان الدولة والكيان.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف