معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

صلاةُ يوم العاشر..
09/08/2022

صلاةُ يوم العاشر..

الشيخ يوسف سرور
كانت حركةُ الثورةِ الحسينيّةُ عنواناً للواجبِ واستجابةً لأداءِ التكاليفِ الإلهيّةِ، وتفاعُلاً إيجابيّاً مع الظروفِ المُستصعبة التي تدحرجَ فيها سُلّمُ القيمِ وانحدرَتْ فيها صورةُ الدين إلى الحضيض، وعَبَثَ بالأمّةُ أراذلُها ورعاعُها، فأقصَيت الشريعةُ المحمّديّةُ وأوشكَ أن ينطفىءَ شعاعُها، واحتشَدَتْ زمرةُ المتَكَسّبين بالدين والحديثِ وسالَ يراعُها، ورُزِئَتِ الأمّةُ "بِراعٍ مثلِ يزيد" وانفضَّ جِماعُها.

كانت الثورةُ الحسينيّةُ تجسيداً لبقاءِ الدّين، وتأكيداً لرسوخِ قِيَمِ الحقّ، فكانت كلُّ حركةٍ في هذه الثورة صورةً عن السلوكِ المحمّديّ العلويّ، ومَعلَماً من معالمِ الوحي المبين، ونَحتاً للعقيدة الحقّةِ في صخرةِ عالم الخليقة لا يمكنُ مَحوُها، وترسيخاً لشعائرَ تحكي معنى الولاية للهِ وحده، وتُعلِنَ البراءَةَ من أوثانِ الوجود، وعلى رأسهم المغتصِبون الظالمون، الذين تجرّأوا على الدّين وحاولوا إعادة الجاهليّة وقعدوا على كرسيّ رسول الله وارتقوا منبرَه، وأظهروا شوقَهم لعودة الجاهليّة الأولى. فكان الدمُ الذي سالَ على أرضِ الطفّ في العاشرِ المحرّم إعصاراً عَصَفَ بالآمال البائسة، وتيّاراً جارفاً يكنِسُ عزائمَ النفوس اليائسة.

عندما كانَ الحسين وصحبُه، قبلَ ظهرِ يومِ العاشر من محرّم، في كربلاء بدأ الأعداءُ مناوشاتِهم المعادية، وتحرّكت المبارزاتُ التي تَبَدَّت فيها بطولاتُ أهلِ اليقين، وكان الواحدُ منهم يبرزُ فيلحِقُ الخسائرَ الكبيرةَ بالأعداء قبلَ أن تلحقَ روحُه ببارئها، إلى أن دنا وقتُ الظهيرة.

تقولُ المصادرُ التاريخيّةُ والرّوائيّةُ:

استمرّ القتالُ بينَ الطرفين حتى زالت الشمسُ وحلَّ وقتُ الظهر وحانَ وقتُ الصلاة. فلمّا رأى ذلك أبو ثُمامة الصائديُّ قال للحسين، عليه السلام: نفسي لنفسك الفداء، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، والله، لا تقتلُ حتى أقتلَ دونَك وأحبُّ أن ألقي ربّي وقد صلّيتُ هذه الصلاة التي قد دنا وقتُها.

 فرفع الحسينُ، عليه السلامُ، رأسَه وقال: ذكرتَ الصلاةَ، جَعَلَكَ اللهُ من المصلّين الذاكرين. نعم، هذا أوّلُ وقتِها. ثمّ قال، عليه السلام: سَلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نُصلّي ففعلوا.

فقال  الحصينُ بنُ نُمَير، وهو أحدُ قادة مُعسكر الأعداء: إنّ هذه الصلاةَ لا تُقبل من الحسين.
 فقال له حبيبُ بنُ مُظاهِر: "لا تُقبَلُ الصلاةُ، زعمت، من ابنِ رسولِ الله وتُقبَلُ منك"،!!!  فحَمَلَ عليه الحصينُ بنُ نُمَير وحمل عليه حبيب. ولم يزل حبيبٌ يُقاتِل حتّى حمَل عليه رجلٌ من بني تميم فضربه برُمحِه فوقعَ وذهبَ ليقومَ فضَرَبه ابنُ نُمَير على رأسه بالسّيف فسَقَطَ شهيداً.

تقدّم الإمامُ، عليه السلام، ببقيّة أصحابُه، وكانوا عشرين رجلاً، اصطفّوا للصلاة خَلْفَه، فلمّا أرادَ الصلاةَ قال، عليه السلام، لزهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي: "تَقَدّما أمامي حتّى أصلّي الظهر". فتَقَدّما أمامَه في نحو من نصفِ أصحابِه حتًى صلّى بهم صلاةَ الخوف، وهي صلاةٌ سريعة خالية من المستحبّات. ورُوي أنّ سعيدَ بنَ عبد الله الحنفيّ تَقدّمَ أمام الحسين، عليه السلام، فاستُهدِفَ من قِبَلهم يرمونَه بالنَّبلِ، كلّما أخذَ الحسينُ، عليه السلام، يميناً وشمالاً قامَ بينَ يديه، فما زالَ يُرمى بالنّبل ويتلقّاه حمايةً للحسين حتّى انتهت الصلاة.

وبعد أن أتمّ الإمامُ صلاتَه استُشِهد سعيدُ بنُ عبد الله الحنفيّ لكثرةِ ما أصابَه من السّهام وما أُثخِنَ من جراح.

كانت هذه الصلاةُ الداميةُ إيذاناً بتحقُّقِ هدفِ الثورةِ الحسينيّة، وحقّانيّةِ نهوضِها، فكَشَفَتْ هويّةَ ثوّارِ نينوى الحقيقيّة وأعلنَتْ صدقَ انتسابِها إلى الدينِ المحمّديّ، وشكّلتْ صفعةً مُدويّةً على وجه ذلك المعسكر الباغي والظالم. ليس فقط أنّه مغتصبٌ متجاوزٌ يَدّعي ما ليس له وينازعُ أهلَ الحقّ على حقّهم، إلّا أنّه لا يتورّعُ عن اقترافِ أفظعِ الموبقاتِ في سياقِ حركتِه، حتّى ولو كانت في قتلِ المصلّين المؤدّين لِواجبٍ لا يُنازِعُ فيه حتّى الكافر.

وقَدّمَتْ لنا هذه الصلاةُ أمثولةً خالدة، في المنافحةِ عن معالم الدين، والمكافحةِ في سبيلِ أدائها، وتوطينِ النّفوسِ على بذلِ كلّ شيءٍ في سبيل بقائها..

ونحنُ، إذ نُبايعُ الحسينَ في أيّامِ شهادتِه، نعاهده أنْ نمضي، كما كنّا على مدى أربعين عاماً معتنقينَ قيمَه ومبادئه ومُتأبّطينَ عُدّتَه ورافعين رايتَه، سوف نمضي على هذه الطريق حتّى نُستَشهَدَ أو نبلغَ الفتحَ مع حفيده المهديّ(عج).

عاشوراء 1444

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف