نقاط على الحروف
شيفرة الضاحية: عاشوراء
ليلى عماشا
كلّما اقترب زمان حلول محرّم، تزداد مظاهر الحداد في الضاحية حضورًا. تكتسي الشوارع بأسود الحزن البهيّ، وترى الأماكن تدخل شيئًا فشيئًا في هالة عاشوراء، في دائرة النور المتوهّج بدمِ الإمام وأصحابه.
كلّ زقاق في الضاحية يتهيّأ على طريقة أهله لاستقبال كربلاء ومجالس الذكر الحسينيّ. واجهات المحال التجارية تشير إلى اقتراب موعد ارتداء السواد حبًّا وحدادًا. لا فرق هنا بين ملتزم بالواجبات الدينية على مدار العام، والعمر، وبين من لا يلتزم؛ فالقلوب هنا تنطق بفطرتها فقط، بما وُلدت عليه من حزن على مصائب أهل البيت عليهم السلام.
في مدينتنا التي تعاني ككل منطقة في لبنان من سوء الحال المعيشية واثر الحصار الاقتصادي، غلب الحزن عيون الناس. قلّما تصادف وجهًا في الحيّ أو في الشارع ولا ترى في طياته ألمًا متوقّدًا، لكن مع اقتراب عاشوراء، يمكن للناظر أن يلمح في الحزن الساكن في العيون لهفة إلى الدمع العاشورائي العاشق، وكأن هؤلاء المتألمين جميعهم يستصغرون ألمهم ويحولونه إلى طاقة حبّ وجهتها عاشوراء، بل مبعثها ومثواها عاشوراء.
تتجهز الخيام لليلة الأولى ولسائر ليالي عاشوراء: رايات حسينية، عصبات تحمل مختلف الشعارات الكربلائية، معدّات صوتية ترفع صوت اللطم عاليًا، شبان يهتمون بكل تفصيل يساهم في فعاليات الإحياء العاشورائي. حتى الأشياء التي يتم تجهيزها لتوزيعها لاحقًا على العائلات "المستورة" أو على المارَة والجيران، تجهّز بعناية وبقلب يهمس "على حبّ الحسين (ع)".
أن تمرّ في الضاحية في هذه الأيام، يعني أن تشهد الإعدادات والتحضيرات للموائد العاشورائية التي تُقام في مختلف الأحياء والطرقات، وأن يتناهى إلى سمعك في كلّ حيّ اسم مضيف صغير وستبلّغ بدعوة لمجلس حسينيّ سيقام في بيت أو في قاعة أو في خيمة مخصّصة للإحياءات، بحيث تشعر أن في الضاحية ستتواصل المجالس منذ الصباح الباكر نسبيًا حتى وقت متأخر من الليل، وأن كربلاء بكل مشاهدها ستحضر على مدار الساعة في القلوب وأمام العيون.
في هذه الأيام، تتجلّى هويّة الضاحية، مدينة المقاومة. تصبح ثقافة سكانها أشدّ وضوحًا وأكثر بريقًا، ثقافة الحياة المنتصرة بالدم على السيوف، تنطق فطرتهم بانسيابية أجمل ويُترجم وعيهم بالحبّ وبالحزن السخيّ الصادق وبالوفاء.
في مثل هذه الأيام عام ٢٠٠٦، كانت أحياء الضاحية تتحوّل إلى ركام بفعل العدوان الصهيوني الهمجيّ الذي صبّ عليها كلّ حقده لانتزاع هويتها ولتغيير ثقافة سكانها. وبعدها، سعى الإرهاب التكفيري سعيه لصبّ سمومه وأحقاده نارًا في حياة أهلها، وخُزيَ فيها كما في عقر داره. لقد واجهت هذه المدينة بهويتها العاشورائية وبأهلها العشاق للحسين (ع) كلّ ما جرى عليها وانتصرت، لأن "هيهات منّا الذلّة" ليست شعارًا مرتبطًا حصرًا بإحياء مناسبة عاشوراء بقدر ما هي نمط تسير عليه القلوب.
نعم، هنا الضاحية، حيث يعيش الناس بكثافة سكانية عالية، وحيث يبلغ الهمّ مستوياته الأعلى، وحيث يحبّ النّاس حسينًا فيحيلون في شهر محرّم بيوتهم وقلوبهم ساحات للحزن الثوري وللعشق المقاتل. هي شيفرة الضاحية الأبسط من أن تتفكّك والأصلب من أن يكسرها عدوان مهما كان نوعه.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
25/11/2024
بيانات "الإعلام الحربي": العزّة الموثّقة!
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024