نقاط على الحروف
النّازحون في تمّوز: صمود وعودة
ليلى عماشا
منذ اللحظة الأولى للعدوان الاسرائيلي على لبنان في تموز 2006، ظهرت معالم القرار الصهيوني بارتكاب أقصى ما يستطيعه العدو من همجية. يعرف الجنوبيون عدوّهم جيدًا؛ خبروه في اجتياح ٨٢ وفي عدوان تموز ٩٣ (حرب السبعة أيام) وفي نيسان ٩٦ (حرب الستة عشر يومًا والتي شهدت مجزرة قانا الأولى ومجزرة إسعاف المنصوري وغيرهما)، عرفوا إرهابه وجهًا لوجه طوال سنوات ما قبل التحرير عام ٢٠٠٠، وهم على تماس دائم مع طبيعته العدوانية في فلسطين عبر متابعتهم لأخبار الأرض المحتلة. لذلك كان خيار "النزوح" بالنسبة للكثير من العائلات ضرورة لا نقاش فيها لعدّة أسباب، ومنها إبعاد الأطفال وكبار السنّ عن خطر التعرّض للقصف ما يخفّض قدر الإمكان الخسائر في الأرواح والتي لا ينكر أحد حقيقة الألم الذي تتركه في الناس، ولا سيّما في مواجهة مع عدوّ يفرّغ حقده وغضبه باستهداف المدنيين في بيوتهم وفي أماكن تواجدهم ولو في مركز للقوات الدولية (ومجزرة قانا خير دليل) أو في أي مكان آخر. كذلك من الأسباب التي تجعل من النزوح ضرورة هو إخلاء مناطق المواجهة بحيث يتمكن المقاتلون من التحرك دون المخاطرة بتعريض حياة السكان للخطر. من هنا، لا يتنافى قرار النزوح مع حديث الناس عن الصمود ولا مع خيارهم الحرّ والشريف بالالتفاف حول المقاومة ودعمها والتمسّك بها.
في تموز ٢٠٠٦، ومنذ اليوم الأول للعدوان، بدأت حركة النزوح من الجنوب نحو بيروت لتبدأ في اليوم التالي حركة نزوح من الضاحية نحو العاصمة والمناطق الأكثر أمانًا. اتسعت البيوت لاستضافة من غادروا بيوتهم في القرى على عجل. اكتظت بالأقارب وبالمعارف الآتين تحت القصف، وتشكّلت بداخلها حلقات قربى من نوع آخر، قربى تجعلها الحرب أكثر حنانًا. أمّا من لم يجد له قريبًا أو بيتًا يمكن استئجاره مؤقتًا ريثما تنتهي الحرب، فكانت وجهته مباني المدارس الرسمية التي فُتحت لاستقبال "المهجّرين" وتأمين إيوائهم ومنامتهم.
عيون النازحين تحكي الصمود ببريق مختلف: تحدّق دومًا نحو الجنوب، تتفقّد من البعيد ديارها وأرزاقها، وتغرق في دمع عصيّ إذا ما كان لها في البيت الذي صار بعيدًا عزيز أبى أن ينزح.
مع وصول النازحين إلى المدارس، وإلى الحدائق العامة ولا سيّما حديقة الصنائع في بيروت، نشطت مختلف الجمعيات الأهلية في سبيل تأمين الحاجات الأساسية التي تخفّف من لوعة التهجير: ماء الشرب وما تيسّر من الوجبات والحصص الغذائية و"فرشات اسفنج" وأغطية وأدوية للأمراض المزمنة. حال التكافل المجتمعي بدا في أبهى حالاته، مع وجود بعض الاستثناءات طبعًا.
سواء في بيوت الأقارب وفي البيوت المستأجرة أو في المدارس والحدائق، لم يأتِ النازحون ليستقروا ولو برهة بعيدًا عن أرضهم، وفكرة عدم عودتهم مهما توفرت لهم فرص جيّدة للبقاء لم تكن احتمالًا. لم ترد في أذهانهم أصلًا فكرة ألا يعودوا. وكانوا على مدار ساعات الحرب التي امتدت لثلاثة وثلاثين يومًا على جهوزية تامة للعودة في اللحظة التي يُعلن فيها عن وقف اطلاق النار. وهذا ما حدث فعلًا. في صباح ١٤ آب ٢٠٠٦ بعد دقائق من دخول وقف اطلاق النار حيّز التنفيذ عبرت السيارات فوق الجسور المهدّمة، مرّت بكل الدمار الذي خلّفه العدوان، وواصلت سيرها إلى حيث ترابها وبيوتها. من وجد بيته ركامًا جلس فوق الركام والعزّة تعلو وجهه: بيوتنا فدا المقاومة، وكلنا فدا هالأرض. تفقّد الواصلون كلّ ما تركوه قبل النزوح، تبادلوا التهاني والدمع المحبوس لثلاثة وثلاثين يومًا. لم يأسفوا على خسائرهم، بل غرقوا في الحياء لصغر ما بذلوا مقارنة بما بذلت مقاومتهم. حين وصولهم كلّ إلى داره، أمكنهم أن يشعروا بعبق الشهداء الذي لم يزل طريًا، وأمكنهم أن يتحسّسوا أثر خطوات من مرّوا من هنا وقاتلوا، ومن عبروا من هنا إلى السماء.
بعودتهم، وجّه النازحون ضربة قاضية إلى الصهيوني وكافة أدواته، ضربة زادت من هزيمته إذ تكاملت مع فشل أهدافه العسكرية وساهمت في تثبيت النصر الإلهيّ ومفاعيله.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
25/11/2024
بيانات "الإعلام الحربي": العزّة الموثّقة!
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024