معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

الاستثمار في المآسي: قتلٌ بعد قتل!‎‎
25/04/2022

الاستثمار في المآسي: قتلٌ بعد قتل!‎‎

ليلى عماشا

لا تنتهي المأساة في بلادنا، مهما كان شكلها، بانتهاء الحدث المأساوي. الحدث نفسه يشكّل مقدّمة تتبعها فصول الاستثمار السياسي والارتكابات الإعلامية التحريضية، والخلاصة دائمًا:
ضحايا بلا قاتل، جرم مشهود ومجرمون تبقى وجوههم طيّ الكتمان أو التكتّم، دمٌ مهدور وتجار دم يكملون تجارتهم ويتوسعون في أعمالهم. قبل مركب الموت شهدنا ذلك في انفجار المرفأ وفي حريق التليل وفي مجزرة الطيونة. تطول لائحة الجرائم، ولا مجرمين يُحاكمون رغم تعدّد الجهات المحقّقة، الرسمية وغيرها، والمعلنة وغيرها، والمحلية وغيرها.

بدافع الفقر وبتحريض وتشجيع وترغيب من بعض الجهات المعروفة حكمًا لدى أهل طرابلس وجوارها، ركبوا البحر ولاذوا بالمجهول بحثًا عن حياة أقلّ إيلامًا وعن معيشة أقلّ إذلالًا وعن أملٍ أقل استحالة. منهم من عاد جثة ومنهم من عاد ناجيًا "على آخر روح"، وجميعهم، بل جميعنا، الضحايا في مأساة لا يمكن وضعها في خانة القضاء والقدر. هي جريمة منظّمة، فكلّ العناصر الجرمية متوفّرة: ثمّة من غرّر ومن رغّب ومن سهّل ومن... وطبعًا، ثمّة من وضع الناس أمام خيارين: الفقر المميت من خلفكم، والبحر أمامكم، وما عرفوا أنّ البحرَ مميتٌ في بعض الأحيان.

منذ ورود خبر الفاجعة، ومع انتشال أول جثة، عمّ القهر أرجاء القلوب. وللدّقة، عمّ القهر حصرًا القلوب التي تعرف حجم الوجع الذي يدفع بالمرء أحيانًا إلى خيارات مرّة كالمضيّ على متن قارب سيمسي قبالة الشاطىء قاربًا للموت. أمّا أهل الاستثمار السياسي فقد وجدوا في الفاجعة فرصة ذهبية لنفث السمّ، وما أحوجهم إلى مثل هذه الفرص. هرعوا إلى منابرهم الافتراضية، تمامًا كما في ٤ آب، وعند كلّ فاجعة، وبدأوا بكيل الاتهامات والتحليلات التحريضية ضد وجهة واحدة، قل ضد الوجهة الوحيدة التي لا يمكن أن تكون محلّ اتّهام في التسبّب بالفاجعة. وأكثرهم وقاحة، أولئك الذين يتحمّلون بشكل مباشر مسؤولية إفقار الطرابلسيين، والذين لم يخجلهم ثقل الوجع الظاهر في أعين المفجوعين.

"سلاح حزب الله"، عقدتهم الأصلية، تحوّل فجأة إلى المسبّب بإبحار الناس على متن قارب الموت. لا يهم، فالسطحية والاستعجال الغبيّ في محاولة اختلاق رابط وهمي بين الفاجعة بشكل خاص والحال المعيشية بشكل عام وبين حزب الله يتكفلان بتعرية جميع المستثمرين وفضحهم على الملأ، أقلّه بتهمة استغباء الناس.

هؤلاء كرّروا أقوالهم هذه في كلّ مناسبة، وهم يعرفون كما يعرف جمهورهم وكل من في الأرض، أنّهم يكذبون، وأنهم لا يهتمون بصياغة أكاذيبهم بشكل يجعلهم يحترمون عقول المتلقين. ولأنّهم كذلك، حاول الإعلام المتأمرك القفز فوق كلامهم الذي لم يعد يجدي، وتوجّه نحو الناس لاستخراج محتوى تحريضي يضيف إلى نقاطه في جداول المهام العوكرية.

لم تعد عناصر الخطاب السياسي الكريه تكفي الإعلام لخلق أجواء من التحريض الطائفي والمذهبي والمناطقي، فقد بهت هذا الخطاب لكثرة ما اجترّه أصحابه. والبديل كان الشارع. البحث عن مفجوعين محرَّضين يكرّرون ما سمعوه لسنوات في إطار تحريضهم الممنهج ضد المقاومة، عن متورطين مسبقًا بحفظ وترداد ذاك الخطاب اللا منطقي والمسيء إلى الذات لشدّة سطحيّته ولا واقعيته، عن أشخاص يتولون مهمة التعبير عن الكراهية فقط لأن ليس لديهم ما يقولون، وفقط لأنهم اعتادوا، وللأسف الشديد حدّ الإشفاق، على نوال رضا أصحاب الثروات في طرابلس، من خلال ترداد العبارات التي قيلت أمامهم دون منحهم الفرصة لمناقشتها ولا الحق بالتساؤل حول حقيقتها.

غُيّب الصوت الطرابلسي العاقل والمنطقي طيلة نهار وليل أمس لصالح الكلام الموتور. مارس الإعلام كلّ إمكاناته لصبّ الزّيت التحريضي على نار الفجيعة. القلوب محترقة، والحزن يفوق الوصف: فرصة جيّدة يقول فيها هؤلاء لمشغّليهم إنّ المهمة الموكلة إليهم قيد التنفيذ.

غُيّب الصوت الذي يوجّه التهمة إلى المرتكب المباشر، إلى عصابات التهريب التي تجني أموالًا طائلة من رمي الناس في البحر، والصوت الذي يحمّل مسؤولية حال طرابلس بشكل خاص لأصحاب الثروات الهائلة الذين آثروا استثمار أموالهم بعيدًا، بعيدًا جدًا عن المدينة المنكوبة وأهلها الأشد فقرًا. غيّب الصوت الذي يوجّه الاتهام لمن يستثمر في الموت ليبني نصّا انتخابيًا لا يغني ولا يثمر لصالح ألف جهة مشبوهة، تصبّ جميعها في الملتقى السعودي الأميركي. وأيضًا، غُيّب الصوت الذي سمع بالأمس كلام السيد حسن نصر الله عن استعداد حزب الله لمساعدة الطرابلسيين في لملمة جرحهم، كما عند كل جرح سبق. غُيّب الجميع وما وجد مراسلو عوكر في الشارع إلّا الكلام التحريضيّ الذي يراد منه كلام تحريضي مقابل، فهم، كعوكرهم تمامًا، يقتاتون على الدم، وكزعامات ابتدعها البخاري، ينفثون السمّ أينما وجدوا جرحًا طريًا. هم النسخة الصحافية عن زملائهم في ميدان السياسة: أجراء يراكمون الرضا السفاراتيّ الذي يُصرف لاحقًا نقدًا أو جوائز، أو الاثنين معًا.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف