نقاط على الحروف
دجل حرية الفكر والصحافة في الإعلام الغربي
عبير بسام
أعلن الاتحاد الدولي للصحفيين أن "تسليم جوليان أسانج سيكون بمثابة ضربة قوية لحرية التعبير. فأي صحفي يعتقد أنه قد يزعج الإدارة الأمريكية عليه أن يخشى استهدافه من قبل فرقة الخطف القضائية". حماية حرية الإعلام في القانون الأميركي تحديداً والغربي عموماً غالباً ما تتصادم والادعاءات بخرق الأمن القومي وتهم التجسس، والهدف الفعلي ردع الإعلام والإعلاميين عن ممارسة حقهم بكشف الحقائق. وقضية جوليان أسانج المستجدة مثالٌ حديث على ذلك. أسانج الذي سينقل ليحاكم في أمريكا مع صمت بلده الأم استراليا، ذنبه نشر معلومات وصلت إليه، وهو أمر يثير الجدل حول ادعاء حرية الإعلام في الغرب وأميركا بالذات، مع العلم أن القضية المثارة ضد أسانج وغيره تتعارض مع الدستور الأميركي، الذي يرعى حرية نشر المعلومات والحقائق.
ما يحدث مع أسانج ليس جديداً، ففي العام 2003، عارض السفير السابق جوزيف ويلسون منطق إدارة جورج دبليو بوش لحرب العراق. ويلسون، هو زوج فاليري بليم، وهي ضابط سري في المخابرات الأميركية، اتهمتها المخابرات زوراً بتسريب المعلومات لزوجها حول دعاية امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وقامت بالتشهير بها، وقد عرفت قضيتها باسم "قضية بليم". وتحولت حياة العائلة إلى جحيم بسبب التضييق والملاحقة بتهمة الخيانة. وقد فُضح عملها كعميلة مخابرات مما أثار حفيظة من حولها. أرادت المخابرات من ذلك لجم كلام زوجها بسبب موقفه المناوئ لقرار الحرب على العراق، والمعارض لسياسة حكومة جورج بوش الابن بعد حادثة الحادي عشر من أيلول.
في أوائل التسعينيات، كشف غاري ويب، المحقق الصحفي في لوس انجلس تايمز، تورط الاستخبارات المركزية الأميركية في تسليح متمردي الكونترا والدور القذر الذي تلعبه في تجارة المخدرات والسلاح في نيكاراغوا. وبعد نشر التحقيق حوصر ويب من قبل المخابرات، وعاش مرحلة من التوتر والعزل المجتمعي بعد تعرضه لحملة تشويه كبيرة كانت تداعياتها الأخطر على حياته وعلى علاقته بعائلته. لقد مس ويب بالمحرمات، وتعرض فريق العمل في الصحيفة للتهديد، ثم نقل من مدينته لوس أنجلوس ليعمل كمراسل في مدينة صغيرة على أطراف نيومكسيكو.
ويتعرض ممثلون أميركيون معروفون مثل ميل غيبسون، لحملات كبيرة بسبب تصريحاتهم حول عنصرية "اسرائيل"، ودخل في صراع مع اللوبي الصهيوني منذ اخراجه لفيلم "آلام المسيح". فغيبسون يجاهر بعداء "اسرائيل"، ويجد الصهيوني صعوبة بمقارعته، فتم اتهامه بـ"معاداة السامية"، وهي تهمة جاهزة لحبس أصحاب الأراء المستقلة في داخل صندوق يمنعهم من التعبير ويتعرضون إلى الاضطهاد الفكري والاجتماعي اذا ما عبروا عن آرائهم ضد جرائم "اسرائيل" وجرائم الصهيونية، ومنهم نذكر روجيه غارودي، الذي سحبت منه شهادة الدكتوراه في فرنسا، لأنه شكك بصحة الأرقام المتداولة في المجازر اليهودية في أوشفيتز.
في حين نجد أنه في بلد يتهم "بكم الأفواه"، ممثلاً معروفاً مثل دريد لحام يستطيع أن يعبر عن رأيه وبكل صراحة عبر شبكة "سكاي نيوز" بالقول "أنا أخاف من المخابرات ولا أخاف من الله"، ثم يوضح أن "كل مخابرات العالم تثير الرعب والخوف وليس فقط مخابرات النظام". كما أكد لحام في تصريحاته أن الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، كان له فضل خلال مسيرته، ووفر له الحماية أثناء عرض مسرحياته بسبب مضمونها الجريء". هذه المسرحيات التي كتبها أشخاص مثل محمد الماغوط ونهاد قلعي، وهما من منتقدي النظام الحقيقيين والذين لم يغادروا سوريا وبقوا فيها حتى آخر أيامهم.
لعب الإعلام المدفوع الأجر في العالم العربي بالتعاون مع الإعلام الأوروبي مثل فرنسا 24 ودويتشه فيله، والإعلام المرتبط مباشرة بحكومات الدول الممولة له في الخليج العربي، والذي تنتشر محطاته الفضائية في جميع أنحاء العالم وأوروبا وخاصة في بريطانيا، دوراً كبيراً في الانقلاب على الحكومات خلال مرحلة الربيع "العبري". كان لهذا الإعلام دور هدام، وبكل معنى الكلمة، متسبباً بالخراب والدمار في عدد من الدول العربية. هذا الإعلام الذي قاد الحملات الغربية والعربية الخليجية تحديداً في معركة إسقاط الأنظمة العربية في تونس وليبيا ومصر وسوريا. ولعبت هذه المحطات دوراً كبيراً في نقل الحوادث على مزاجها، دون حسيب أو رقيب، وساهمت في التأسيس للتلاعب على الألفاظ: من رئيس دولة، إلى رئيس نظام، ومن القائد إلى المجرم القاتل، وإلى ما ذلك من تعابير.
ولكن في الحقيقة هذا الدور يعتبر هامشياً أمام الدور الذي يديره الإعلام الغربي وهو الأخطر في إعادة رسم المفاهيم في عقول الناس، اذ وصفت الفورن أفيرز في العام 2017، إضراب الأسرى عن الطعام بأنه صراع ما بين مروان البرغوثي ومحمود عباس على رئاسة السلطة الفلسطينية ووصفت منظمة فتح بأنها المنظمة الإرهابية التي قادت الانتفاضة الأولى في "اسرائيل". الفورن أفيرز من أهم المجلات السياسية المقروءة حول العالم، والتي لا تعكس فقط السياسات الآنية وإنما المستقبلية أيضاً. وهناك اليوم أكثر من 375 فلسطينيا تحت الاعتقال الإداري، ولا يتم الحديث عنهم إلا لماماً.
وتحول الحديث حول الصراع بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، ليصبح صراعاً مع الفدائيين الإرهابيين حتى مرحلة الانتفاضة الفلسطينية الأولى في منتصف الثمانينيات، وكان يطلق على الفدائيين تعبير المخربين. وحورت التعابير المستخدمة دور المقاومة في فلسطين، لصالح تعبير الصراع بين "إسرائيل" وبين حماس في غزة، أو مع فتح في الضفة الغربية، مع من تصنفهم كل من "اسرائيل" وأمريكا بالجماعات الإرهابية.
تهدف التعابير المستخدمة الى ربط أي حزب أو تحرك داخل فلسطين بالمنتمين إليه حصراً، وتعطي "إسرائيل" الحق "بالدفاع عن النفس" ضد "مجموعات إرهابية" وتلغي وجود الشعب الفلسطيني. السياسة الإعلامية ذاتها تستخدم في تصوير المقاومة في لبنان على أنها خلاف بين "اسرائيل" وبين حزب الله، وبالتالي بين منظمة صنفتها الولايات المتحدة بالإرهابية وبين "دولة اسرائيل"، وكأن العداء مع "اسرائيل" لا علاقة له مع احتلال الجنوب اللبناني أو فلسطين أو الجولان، بل هو صراع "دولة" مع منظمات. وحتى أن اليونيفيل والأمم المتحدة في جنوب لبنان تعتمد تعبير السكان المحليين في جنوب لبنان، ولا تسميهم مواطنين، وكأنهم حالة قابلة للتغيير، فباتت صحافتنا تستخدم كلمة النظام لوصف القوى الحاكمة. ولكن! كلمة نظام في اللغة الإنكليزية هي "System" ويستخدم الأميركيون والأوروبيون تعبير الدولة "state"، في وصف نظامهم الحاكم أي "regime". قد يبدو الأمر خطأ ترجمة، ولكنه في الحقيقة أعمق من ذلك. فكلمة "Regime" استطاعت خلق مفاهيم مشوهة في الولايات المتحدة والعالم حول الدول "الأعداء" عبر الأفلام والمسلسلات الأميركية والإعلام الأميركي لزرع تصورات مشبوهة حول الأنظمة التقدمية في كوبا وفنزويلا وكولومبيا وسوريا والجزائر، وحوِّل الحكام المنتخبين فيها إلى طغاة، وتم تشويه صورة النظام الانتخابي ليبدو نظاماً قمعياً لأنه لا يتناسب ورضى الأميركي.
وتقوم الأفلام الأميركية بتكريس تطبيع الصورة، قبل استهداف أي بلد عسكرياً. فكولومبيا والمكسيك هما مصدر المخدرات التي تقتل الشعب الأميركي، وكوبا وفنزويلا نظامان شيوعيان فاشستيان يفقران شعبيهما، وسوريا ومصر والمغرب العربي عامرة بالإرهابيين والقتلة، والأوكرانيون والروس قتلة قلوبهم قاسية وأصحاب أكبر مافيا للإتجار بالرقيق وتبييض الأموال في أمريكا؛ وأمراء الخليج حلفاء أمريكا ولكنهم خرقاء مهووسون بمضاعفة الرقيق الأبيض في قصورهم، والهدف من ذلك تبرير الوجود التجاري والعسكري الأميركي في الخليج منعاً لانتشار الفوضى في بلاد النفط.
مهمة هذه الصور المزروعة في رؤوس الناس شيطنة القادة المغضوب عليهم وخلق العدو المناسب، الذي يمكن من خلاله السيطرة على الجمهور ليس في أمريكا وحدها، بل في معظم بقاع العالم. وإذا كان البعض يعتقد أن تصوير الأحياء الصينية على أنها مراتع للأفيون وتهريب الأفراد من الصين ليخدموا عبيداً أو في الدعارة عند مستقدميهم لا علاقة له بالحرب التي يحضر لها الأميركي مع الصين، فعليهم إعادة التفكير، أو أن نشر دعاية اقحام حزب الله بالفساد، لا علاقة له بخلق شرخ لبناني عميق وبالتالي تمرير مطالب البنك الدولي فعليهم إعادة التفكير، وأن شيطنة الحكومات والشخصيات والدول المناوئة لأمريكا و"إسرائيل" لا علاقة له بتبرير الحروب على هذه الشعوب وتحليل سفك دمائها فعليهم أيضاً إعادة التفكير. فهامش الحريات في الإعلام الغربي مجرد تعميم زرعه الإعلام الغربي في رؤوسنا، فما يمتاز به الإعلام الغربي هو فن التنميط، بأكثر مما يهدف إلى كشف الحقائق.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024