معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

عن هويّة الضاحية: عنّا..
07/12/2021

عن هويّة الضاحية: عنّا..

ليلى عماشا

كثر الحديث عن  الضاحية، عن ملامح وجهها التي لا تبدّلها سنين الأزمات وإن أحدثت فيها تغييرات تبقى في إطار نتاج النمو الطبيعي للأماكن، عن شوارعها، عن أبنيتها، عن التنوّع والاختلاف الذي يطاول كلّ شيء فيها، الناس والأحياء والأسواق والأنماط... من بدون أن يمسّ بهويتها الصريحة والواضحة.

وقعت الضاحية كضحية للتنميط قبل الناس: "من الضاحية"، عبارة تربطها الأذهان المريضة، أو المشبعة بالملوثات المجتمعية بسيل من الأفكار المعلبة والجاهزة؛ الضاحية بالنسبة إليهم هي مكان غير مرتّب، بشوارع ضيّقة وغير نظيفة، بأبنية ألوانها غير متناسقة. سبقت هذه الأفكار وغيرها "ابن الضاحية" إلى التنميط، فذلك الذي بالنسبة إليهم هو مَن لا يلتزم بشارات المرور حين يذهب إلى بيروت، ولا يدفع فواتير الكهرباء، وهو الهارب من مذكرات توقيف متعددة وهو المسلّح الذي يشهر سلاحه في أيّ إشكال. هو بلغتهم صورة عن "الضاحية" التي في أذهانهم، قل في أوهامهم، وربما في أوهام بعض سكانها، الذين يظنون أن الرقيّ يكمن في التبرؤ من بيئتهم ومكانهم.

لا تختلف مشاكل الضاحية وحكاياتها عنها في أيّ ضاحية حول أي مدينة في العالم. يكمن الفارق بين الضاحية الجنوبية لبيروت وبين أيّ ضاحية على الأرض في هويتها. وهنا "القصة كلّها".

تتشكّل هوية المكان من مجموع الأنماط التي تتحرك وتتناغم داخله، بالإضافة طبعًا إلى تاريخه وطبيعة أهله. وبهذا لا يمكن أن تكون هويّة الضاحية إلّا ابنة الأنماط المتفاعلة داخلها والتي تتشارك كلّ تفاصيل أيامها، وتتشارك مجاورة الشهداء. إذًا، العنوان الأبرز للضاحية، هويّتها، لونها، تاريخها، حكاياتها، رائحتها، ذاكرة أحيائها وشوارعها، هي بكونها مدينة الشهداء، أي مدينة من أحبوا الحياة حتى بلغوا ذروة الحبّ، ومن تمرّسوا بثقافة الحياة حدّ الذهاب إلى الموت حبًّا. ومن هنا، يصبح الحديث عن ربط مظاهر ثقافة الحياة بكلّ ما يتنافى مع كلّ العناصر التي تشكّل هوية الضاحية هو حديث ينمّ عن جهل قائله بمعاني الحياة وثقافتها، وهو خضوع للنموذج الذي يحاول تأطير الضاحية بهدف عزلها، أي النموذج الذي تفرّج على أبنيتها وقد دُمّرت ذات تموّز وتمنّى أن لا تعود، فعادت، وعادت أجمل مما كانت!

لم يعد من المجدي تعريف ثقافة الحياة لمن يصرّون على جهلهم أو على سعيهم لعكسها، إلّا أنّه من الضروري تذكير جميعهم بالآتي:

- لم يربط بين التديّن ومظاهره من جهة، والجهل ومفاعيله من جهة أخرى، إلا اثنين: النموذج الغربي (والذي يحضر في أذهان البعض كمقياس حضاري، للأسف!) والشرقي الدونيّ الذي يتبنى كلّ ما يقوله الغربي وسائر المستغربين.

- في الضاحية ناس من كل التوجهات العقائدية والفكرية، ولم يتعرّض مخلوق فيها يومًا إلى أي محاولة إجبار على اعتناق ما ليس يعتقد فيه. بالعربي "المشبرح"، لم يفرض النمط الغالب فيها طقوسه وطبيعة سلوكه على أحد سواه، ولذلك يمكن لكلّ المارة في أي طريق في الضاحية أن يلاحظوا التنوع في أنماط العيش هنا، وحتى في السلوكيات. ولكن، هل من المنطقي افتراض أن لا سلوكيات مرفوضة مجتمعيًا، ولا ضوابط تحدّد كيفية تصرّف الأفراد والجماعات؟ إن افتراضًا كهذا يعني حتمًا أنّ حامله يفتقد إلى الحدّ الأدنى من المعرفة الاجتماعية وحتى التوازن الذهني والنفسي.

أمّا حول من يضع هذه الضوابط ومن له أن يقبل أو يرفض سلوكيات معيّنة، فالإجابة لا يمكن أن تكون شخصًا أو جهة، هي باختصار الأعراف والقوانين والسلوك العام، والتي تشكّل خطوطًا حمراء لا يتحاوزها الأفراد في أيّ بيئة اجتماعية. (ويمكن ملاحظة ذلك حتى في المجتمعات غير البشرية بالمناسبة).

وبالتالي كلّ مظهر يتعارض مع هذه الخطوط الحمراء يستدعي انتباه الجميع، ورفضهم، بغض النظر عن شكل هذا الرفض ونوعه.
باختصار، يرفض الناس ما يؤذيهم، ما يزعجهم، ما يمسّ بالخطوط العامة التي يضعونها ضمنيًا. وفي الضاحية، يرفض الناس، بطبيعة الأحوال، ما يؤذي هويّتهم وهويّة مكانهم، وهم غير معنيين بتوصيفات وإسقاطات النموذج الغربي أو النموذج الدونيّ على مدينتهم وأنماط حياتهم. هم أحرار إلى حدّ عدم انتظار تقييم لهم، ولا سيّما ذلك الصادر عن جهات مدانة أصلًا في أنماطها وسلوكياتها.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف