نقاط على الحروف
عن طائر أيلول المهاجر..
ليلى عماشا
ثمّة ذاكريات لا تغيب لكي تعود في مواسم زهرها. وإن كان لنا في كلّ الأيام وعلى مدار الفصول مواسم يتفتّح فيها ورد الشهداء، لنستعيد حكاياتهم التي لا تنقضي ولا يغطيها غبار الزمن، ففي أيلول لنا ذاكرة مع ذواتنا، مع ذاكرتنا الخاصة، مع خيط لمّاع في نسيج حكاية تشكّل وعينا، نحن الذين لا نملك إلّا أنّ نخفض أعيننا خجلًا أمام فيض المقاومة.
في مثل هذا اليوم، تعرفنا إلى اسم نجلِ السيّد نصر الله. بل في مثل هذا اليوم، أمكن للكثيرين أن يعرفوا السيّد نصر الله الأب، وأيّ أب؟! أب الشهيد.. أبا هادي.
في ١٢ أيلول، التحق السيد هادي حسن نصر الله بقافلة الشهداء. ألقى على الدنيا سلامًا من دمه والتراب، وارتمى صعودًا نحو الشهادة مشتبكًا. عاد جسده بما حوى من شظايا ليودّع كفّي أهله، ويغيب في التراب حيِيًّا، فكلّ الشهداء سمتهم الحياء.
وبه عرف العالم كلّه حقيقةً تقول إنّ أهل حزب الله لا يدّخرون أولادهم للمستقبل، ولا يخشون عليهم من الرصاص ولا يبعدونهم عن ساحات المعركة.
كان الخبر بفحواه صادمًا بالنسبة للكثيرين، في لبنان وحول العالم، فلطالما كان أبناء القادة في الحروب يحتلّون الصفوف الأولى في الأماكن الآمنة، محاطين بالمرافقين وبأجهزة الحماية. وكان الظنّ أن عاطفة الآباء تغلب الخيار السياسي. لكن من يعرف حزب الله، ويعرف النهج الذي يسير عليه هذا الحزب، لا يمكن أن يصدمه الخبر، فهو يدرك أن عاطفة الآباء العظيمة تدفع ببنيها إلى حيث يكون الخيار مقترنًا بالفعل، والقول مقترنًا بالصدق، وإلى حيث يكون المرء إلى حقيقته الإنسانية أقرب.
وبهذا المعيار، السيد هادي حسن نصر الله كان في مكانه الطبيعي والذي فرضه خياره الأخلاقيّ والإنسانيّ والوجداني الحرّ. وبهذا المعيار أيضًا، لم يكن مستغربًا أن يزفّه الثاني عشر من أيلول قمرًا شهيدًا كسائر الأقمار الشّهداء.
نعم. تشكّل وعيُ جيل أمام مشهد القائد الذي يستقبل المهنئين باستشهاد البكر القمر في ساحة المواجهة مع العدو، ومشهد الأب الذي يتلقى خبر الفقد ويزفّه إلى الناس مبتسمًا حامدًا وخجولًا فيما يحمد الله أن نظر إلى عائلته نظرة كريمة واختار منها شهيدًا يجعلها فردًا في الجمع المقدّس لعوائل الشهداء، ومشهد الجبل الذي لا يمسّد وجه فلذة كبده من فوق الكفن، تاليًا الفاتحة وربما بعض الكلمات التي اعتاد أن يسرّ بها لحبيبه.
تعامل حزب الله مع الخبر كخبرٍ لا يختلف عن أي مرّة زفّت فيها المقاومة الإسلامية كوكبة من الشهداء. شيئًا فشيئًا، لم يعد خفيًّا على أحد أن أبناء قادة هذا الحزب هم جنود فيه، وأنّ النّهج الاستشهاديّ هو حالة من التوريث بين الآباء والأبناء، فابن المجاهد مجاهد، وعائلة المجاهد خليّة يقاتل كلّ أفرادها، كلٌّ بأدواته.
لكنّ الناس، نحن الذين لم نتمكن من حبس شهقتنا حين تلا السيد حسن نصر الله أسماء الشهداء في جبل الرفيع، وتحاشى ذكر الاسم الثلاثي لابنه من بينهم، تواضعًا وحياءً وحبًّا، لم يستطيعوا التعامل مع استشهاد السيد هادي إلّا بما فاضت به قلوبهم من خجلٍ أمام ما لم يروه إلّا في السّيَر العالية عن آل الفداء.
طائر أيلول المهاجر، ابن البيت المقاتل، سليل الآل الطاهرين، ربيب النهج الصالح، ابن السيّد الحسن الذي نصره الله، ارتفع في مثل هذا اليوم قمرًا مستشهدًا، ومنحنا فرصة لاكتشاف سرّ من أسرار المقاومة، من أسرار القوم الذين لا يوفرون أولادهم للمستقبل، ولا يقاتلون بأبناء الآخرين، يفخرون بهم في الخطوط الأمامية في جبهات القتال ويرفعون بهم رؤوسهم حين يعودون شهداء.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024
ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
16/11/2024
الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
15/11/2024