معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

نقاش هادئ مع رافعي شعار الدعوة الى
14/08/2021

نقاش هادئ مع رافعي شعار الدعوة الى "لبننة" حزب الله

ابرهيم صالح

اختار الوزير السابق والقيادي المطرود من حزب الكتائب سجعان قزي ان يعنون مقالته الاسبوعية (الافتتاحية) في صحيفة "النهار" بـ "حزب الله منهم وفينا" ليطلق مجموعة فرضيات خاطئة ويستنتج حزمة استنتاجات تجافي المنطق وتعادي الواقع.

المقال لم يكن يحتاج الى عناء الرد كونه ياتي من عنديات شخص عرف عنه الانحياز والغرضية وقلة الموضوعية. فهو مذ بدأ رحلته السياسية وبحثه الدؤوب عن موقع وملاذ وشرعية اعتراف واحداً في حاشية مستشاري بشير الجميل في ذروة صعود نجمه السياسي في نهاية السبعينات ومطالع عقد الثمانينات ثم انتقاله الى كتلة حزب الكتائب التي سمته وزيرا عنها لكنه اثر البقاء على كرسي الوزارة متمردا على قرار حزبه بالاستقالة، واخرا وليس اخيرا ليستقر في بطانة "سيد الصرح" مرشدا ودليلا وعينا لمشاريع مغامرة من نوع الدعوة الى الحياد ثم التدويل التي عدها الفاتيكان مغامرة في المكان والزمن ودعا الى التعجيل في طيها، وهدفه الاساس تكرار تجربة ابراهيم نجار ليكتسب صفة المنظر لليمين المسيحي المتطرف.

ولان الرجل مهما تحول وبدل فانه لا يخفي ابدا انه في حال نوستالجيا دائمة الى اعادة احياء زمن سادت فيه ثقافة ما اصطلح خبراء السياسية والمؤرخين على تسميته "المارونية السياسية" والتي قارعت على مدى اكثر من ثلاث عقود "اعداء" كثر بشكل دائري.

ولان رجلا بهذا التاريخ وبهذه العدوانية لكل من لا يتلاقى واياه، لم نكن نكلف انفسنا عناء منازلته فكريا، فاننا شئنا ان يكون السجال مع بعض ما اورده من افكار واطلقه من استنتاجات تجافي الموضوعية، محاكمة عاجلة لمنظومة كلامية وايديولوجية اطلق لها العنان فدخلت منذ فترة في قاموس الخطاب الاعلامي اليومي لحفنة من المنظرين المعروفين بنمطية افكارهم حاضرا وتاريخا والمشهود لهم بانكارهم الدائم لكل ما استجد في دورة الحياة السياسية في البلاد منذ مطالع عقد التسعينات.

فالمعلوم ان فاتحة عقد التسعينات كانت بمثابة عملية قطع  مع مرحلة سوداء في تاريخ البلاد كان النجم الاسطع فيها من كان قزي مكلفا بمحضهم المشورة والنصح ومن ثم النطق بلسان حالهم. وكان ثم من يفترض او ثمة من اوحى بان هذه الحفنة عينها قد مارست نوعا من النقد الذاتي ومارست في الوقت عينه غياب المأزوم والخائب طوال نحو عقد ونصف عقد من السنين. لكن الذي حصل انها نجحت في التسلل الى قلب المشهد بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وحجزت لنفسها مكانا بفعل حاجة البعض اليها ليستكمل النصاب الطائفي لمشروعه السياسي.

وثمة من راهن على صحوة ضمير او اعتماد موضوعية لهذه الحفنة لكن ما حصل انها  شرعت على الفور في ردة وهجوم مضاد يراد منه طي صفحة مرحلة بكل ما حملته من متغيرات وتحولات ووقائع صلبة وثابتة واعادة عجلة الزمن الى زمن كان لها فيه حق "توزيع الهويات اللبنانية " على من تجد فيه حصرا مؤهلات ومقاييس لتعطي هذه الهوية من تشاء وتحجبها عمن لا ترغب وتريد ويواليها فكريا وسياسيا واذا لا، فالتشكيك "بلبنانية" من لا يوافقها والطلب منه "اجراء فحص دم" يومي حتى يجدر منحه الاعتراف والشرعية بلبنانيته.

ولان تشكيك قزي بلبنانية "حزب الله " ودعوته اياه الى المبادرة لاحداث تغيير وتبديل في جوهر مشروعه السياسي لكي ياتي يوم ويضحي فيه مؤهلا لدخول "ملكوت لبنان" وتحديدا لبنان وفق مشيئة قزي وبناء على مقايسه ومعاييره التي تسمح له باجتياز عشرات الاختبارات، قد صار "الموضة الكلامية الدارجة " لامثال قزي او تكون جاهزة غب الطلب، وصارت ايضا لعق ولازمة على السنتهم، فقد بات لزاما  التذكير بوقائع عنيدة من تاريخ الكيان اللبناني، لان السكوت على عملية التزوير والتلفيق قد تصير عامل اغراء لسفهاء السياسة ولمحترفي التلاعب بالعقول لكي يمضوا في غيهم وليندفعوا في لعبة تزويرهم ووتحريفهم للوقائع .

لا قيمة ولا موضوعية  اطلاقا لما احتواه مقال قزي كون كاتبه مشهود له بالانحياز واللاموضوعية وكونه اتى اصلا من كاتب ما انفك مقيما عند تخوم مرحلة الاحتراب الاهلي وشعاراتها وخطابها بل ومفرداتها ويحلم بيوم تعاد فيه عجلة الامور الى هاتيك المرحلة البائدة والمنطوية لانها كانت "مرحلة الصعود الذهبي" لصاحب المقال، لولا ان الرجل اختار ان يصور حزب الله وفق عقليته المريضة الغرضية بانه "جزء من حالة ايرانية شاءات الظروف الخارجة عن السيطرة ان يحل بين ظهراني اللبنانيين فتحول (الحزب) الى وديعة وضعت قسرا عند اخرين. ولكن اللافت ان هذه الوديعة لم تؤدي دور الضيف المؤدب الخفيف الظل لكي يوسع له المضيف المكان ويمنحه شهادة حسن سير وسلوك، بل تحول (وفق تشخيص قزي) الى عنصر شغب وعامل قلق وصار يتعين ان يرعوي ويتادب وابرز العلائم والبراهين لينال تلك الشهادة هو ان يتقدم الى امتحان اثبات لبنانيته.

وعليه فان السؤال الذي يتبادر الى الذهن هو من هي السلطة التي اعطت هذا الشخص، صاحب التجارب الخائبة والرهانات الخاسرة التي جرت على "قومه" وابناء طائفته الويل والثبور، حق منح الشهادات وتوزيعها؟

انها عودة الى نهج واداء اتسمت به حقبة من تاريخ الوطن كان الظن انها طويت وان ابطالها قد اخذوا وقتهم لتلاوة فعل الندامة عليها وطلب الصفح والغفران من المتضررين والمنكوبين.

انه استنساخ ممجوج لمنطق سقيم وخطاب استعلائي من جانب منظرين يعتقدون ان قوالبهم الجامدة كاحذيتهم لوزن الامور والتي تعود الى مطالع العشرينيات من القرن الماضي (نشوء لبنان الكبير) ولمحاكمة الاخرين ما برحت قابلة للاخذ بها علما ان اقل ما يقال فيها انها من النوع الذي باد بعدما ساد لبعض الوقت، وانه بالتالي يفترض انه احيلت الى التقاعد.

وبمعنى اخر ما زال اصحاب هذه الاعتقادات يتصرفون على اساس ان الوطن وبالصورة التي وضعت ابان الانتداب الفرنسي واعطيت بموجبها لشريحة من طائفة الميزان والقسطاس ليقاس عليه ويكون النموذج الذي يحتذى هم حراسه وولاة امره الحصريون.

رواية ممجوجة وسردية مقززة تستهدف اثبات غائب اكل الدهر عليه وشرب وانكار مرضيا لحاضر فرض نفسه بقوة الامر الواقع  والوقائع مذ انطلقت فاعليات المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي في عام 1982 الى اخر عملية نفذتها المقاومة بالامس القريب ردا على العدوان الجوي الاسرائيلي. فمن يومها سرت في اوصال البلاد روحية جديدة وقيم مختلفة ومعايير اخرى مبتدها وخبرها معلوم ومكشوف.
لا تلغيها من الاعتبار ان ثمة من لايريد الاقرار بها.

في عرف قزي ان مشكلة لبنان سببها وجود حزب الله في عمق المشهد السياسي وان هذاالوجود هو الذي "يعلق" مشروع الدولة ويحول دون قيامها.  خطاب متهافت سقيم اخر لايحتاج الى ادلة كثيرة لدحضه والتسخيف من قيمته.

فاي مراجعة مهما كانت عابرة وسريعة للوقائع اللبنانية منذ جلاء الفرنسي عن البلاد في عام 1943 تظهر ان توالد الازمات مسالة ثابتة في اصل هذا الكيان فمنذ نشوئه عصفت العلل والامراض بالجسد الهش لهذا الكيان حيث لم يكن يومها لا حزب الله ولا ايران ولا سواهما.

كما لم يكن هناك ثنائية شيعية ودور وازن للشيعية السياسية التي يشكو منها البعض الان ويستخدمها مشجبا ليعلق عليها فشله.

ولا ريب ان قزي وسواه يعرفون تماما ملابسات ازمة عام 1952 التي نتجت عن قيام تكتل سياسي قاده يومذاك كميل شمعون وقف في وجه حكم "بطل الاستقلال" بشارة الخوري واطاح به بعدما خلف ازمة استمرت نحو شهرين.

ولا شك ايضا ان قزي يعرف ظروف ازمة عام 1958 والتي تحولت الى ما يشبه العصيان والثورة وحالت دون التجديد لشمعون وصولا الى الازمات التي بدات بالتناسل منذ عام 1968 حتى انفجار الحرب الاهلية في عام 1975 وما ادراك ما الحرب الاهلية.

أس المشكلة منذ ذاك التاريخ البعيد ان ثمة "قوم" اقنعوا انفسهم بانهم ثمة تكليف الهي لهم منحهم حق "حماية  الصيغة وحراسة الهيكل " فخولوا لانفسهم حق استعداء كل الاخرين والدخول في حروب معهم. وكلام قزي في مقاله الاخير يدل بانه يعتبر نفسه انه الوريث الحصري لذلك الجيل "من نواطير الصيغة" وانهم ما بدلوا تبديلا رغم هذا الكم من المستجدات.

اما مقولة ان حزب الله هو علة العلل في هذا الكيان فالامر ليس مستجدا على خطاب هذا الرجل ومن يواليه. فدوما كان عندهم "راجحهم " ( على وزن راجح الذي يستعمل كذبة في مسرحية بياع الخواتم للاخوين رحباني) الذي يستعملونه فزاعة في وجه الاخر والمعترض.

فالتخويف من المد الناصري سمة الخمسينات والستينات والتهويل بالوجود الفلسطيني امارة الستينات والسبعينات ثم الترهيب من " الاحتلال السوري" علامة الثمانينات والتسعينات واذا عزت الذريعة فالتخويف من اليسار الدولي كان غب الطلب. والان اتى الدور على "الاحتلال الايراني ليجعلونه مشجبا يلقون عليه زورا وبهتانا المسؤولية والتبعة. والمفارقة انهم يغسلون يديهم دوما من "دم هذا الصديق" ويحلولهم ان يسموا المسالة "حروب الاخرين على ارض الوطن".

اما الرد على ان وجود حزب الله هو سبب ابقاء الدولة "معلقة" وفق زعم قزي فيتجسد في ما كان يردده دوما المنظر اليساري ابتدا ثم منظر 14 اذار سمير فرنجية الذي اطلق في ذروة انتعاش لبنان واستقراره في منتصف التسعينات مصطلح "الدولة المؤجلة "على الواقع اللبناني وهو مصطلح ظل مقيما عليه الى ان توفي قبيل اعوام .

المشكلة ليست في الدولة التي ظلت معلقة منذ اقرار الميثاق الوطني بل انها في العقول المتحجرة السوداء المقيمة على انكارها للوقائع .

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف