معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

العدالة والحقوق في عهد أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشتر
27/02/2021

العدالة والحقوق في عهد أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشتر

عادل الجبوري

 

   يتفق الكثير من العلماء والباحثين والمؤرخين على أن عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى واليه على مصر مالك الأشتر يعد أهم وأبرز وثيقة سياسية شاملة المعاني والدلالات والأبعاد والمضامين لإدارة شؤون الدولة والحكم ورعاية مصالح الناس، وإشاعة العدل والمساواة بينهم.

    كان عهد الإمام علي لمالك الأشتر بمثابة دستور متكامل وفق المفاهيم والأدبيات السياسية السائدة في عالم السياسة الحديث، بل وأكثر من ذلك، مثل الإطار الجامع والشامل للمجتمع بشتى تنوعاته الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وحتى الدينية، انطلاقًا من الفهم القرآني والإنساني السليم لدور ومهمة الحاكم، وماهية واجباته حيال الرعية، فضلًا عن أهمية أن يكون الحاكم قدوة ومثالا يحتذى به في البساطة والزهد والتقوى والرفق واللين والتضحية والعطاء.

   لقد أراد أمير المؤمنين علي عليه السلام، من خلال فكره ومنهجه وسلوكه وطريقة تعامله مع الناس، لا سيما حينما كان حاكمًا عليهم، على الولاة والحكام الآخرين، أراد أن يؤسس لمنهج قوامه الديمومة والاستمرار والصلاح لكل زمان ومكان.  

   ويشير الدكتور ابراهيم العاتي رئيس الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في بحث له تحت عنوان (الرؤية السياسية عند الامام علي بن ابي طالب عليه السلام)، في سياق عرضه وتحليله للمضمون السياسي في عهد الإمام لمالك الاشتر، الى أن "السياسة هي فرع من العلم المدني الذي يبحث في أصول الحكم وتنظيم شؤون الدولة، وهي عند المحدثين، فن حكم الدولة أو فن إدارة المجتمعات الإنسانية، فهي فيها شمولية. والناظر في نصوص أمير المؤمنين (ع) السياسية يجد أنه أمام رؤية سياسية شاملة، وخاصة في عهده الخالد الى الصحابي مالك الأشتر (رض)، تحدد مواصفات الحاكم وعلاقته بالمحكومين، وتبين أسلوب الحكم والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية والعدالة وضرورة تنفيذها على الجميع، والمعاهدات الدولية والقانون الدولي لكنها لا تتوقف عند هذا الحد"، حيث إنه - أي العاتي - يؤكد "أنها تتسع الى السياسة الاجتماعية والعلاقة بين الطبقات في تقسيم العمل والرعاية الاجتماعية والسياسة الاقتصادية والنظام العسكري والإداري، ويحرس كل ذلك نظام أخلاقي راقٍ لا يحيد عنه الحاكم تحت أي ذريعة من الذرائع، لأن من ميزات الفكر السياسي عند أمير المؤمنين هو الربط بين السياسة والأخلاق".

   يقول الإمام علي عليه السلام، مخاطبًا الصحابي الجليل مالك الأشتر، كما ورد في كتاب نهج البلاغة للسيد الشريف الرضي ".. واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلاّ قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه، عهداً منه عندنا محفوظاً".

   ويقول أيضًا "فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف، ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف".

    ومثل هذه التوجيهات والنصائح والمواعظ، والمبادئ والأفكار والمفاهيم، نجدها تشغل حيزًا كبيرًا في معظم - إن لم يكن جميع - دساتير الدول في عالمنا المعاصر، وفي مجمل البرامج والخطط، بأشكال وتعابير وصياغات مختلفة، الى جانب ما تحفل به برامج وحملات التنافس الانتخابي من صور جميلة ووعود براقة وخطط نظرية متفاءلة، بيد أن الواقع العملي غالبًا ما يؤشر الى غياب وتغييب شبه كامل لما يطرح على الصعيد النظري، وهو ما ينعكس بوضوح من خلال تفشي مظاهر الاستبداد والتسلط والطغيان والظلم والفقر والحرمان والإهمال والاستئثار بالموارد والثروات، لا سيما في البلدان المتقدمة التي تحكمها أنظمة ديمقراطية في ظاهر الأمر.

   ويتطرق العلامة الشيخ عبد اللطيف الشبيب الى ذلك التناقض الفاضح بين النظرية والتطبيق، بالقول "التفاصيل الواردة في العهدين الدوليين، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية عام 1966م والبروتوكلات الملحقة بهما، وما حددته حول حقوق الأفراد والجماعات. إلا أن كل هذه المواثيق مجتمعة لا نرى لها فاعلية بحجم ما تنادي به على أرض الواقع، وإلا كيف نفسر الممارسات التعسفية التي تفتقد لأدنى مقومات الاحترام لهذه المعاهدات من قبل هيئة الأمم المتحدة على مستوى ما نراه اليوم ونلمسه ونعيشه في هذا العالم من مآسٍ وويلات، من حروب ونزاعات، من فتن وصراعات، تجعلنا نعيش الحيرة والدهشة، ويتملكنا الاستغراب بين ما نراه من مطالبات على ضوء مرجعية وثائق حقوق الإنسان وبين ما نعيشه من انتهاكات صارخة لهذه الحقوق والمطالب على الأرض؟.. فأين هي السياسات العادلة، وأين هي الحريات المتاحة؟ وما هو نصيب مجتمعاتنا منها؟ وإلى أي مدى حصل الأفراد أو الجماعات على حقوقهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية؟ وما هي الفرص التي أتيحت لهم للمشاركة في الحياة العامة؟ أين هي كرامة الشعوب وحقوق المواطنة المسلوبة؟ ومن المسؤول والمحاسب عن الخروقات الواضحة والخطيرة بحق شعوب الأمة؟ يا ترى من أجل ماذا؟ ولصالح من تجري كل هذه الانتهاكات المنظمة؟".

   وبقدر ما تؤشر وتتحدث المصادر التاريخية عن المخرجات والمعطيات والنتائج العظيمة لسياسة الإمام علي عليه السلام في إرساء العدل والمساواة والإنصاف بين كل أبناء المجتمع، نجد اليوم شتى صور ومظاهر الظلم والطغيان والدمار والخراب جراء سياسات الكثير من النظم الحاكمة، رغم ما تدعيه وتتبجح به من قيم ومبادئ وأفكار.    

   ولم يهمل الإمام علي عليه السلام البعد الاقتصادي في نظريته بإدارة الدولة والحكم، وهو في عهده لواليه على مصر، يفرد لذلك البعد حيزًا مهمًا، باعتبار أن السياسة لا تستقيم، إلا بحسن التصرف بموارد الدولة وإنفاقها بالشكل الصحيح، وإذا لم يتحقق ذلك، فإن بنى وهياكل تلك الدولة - أي دولة - ستتصدع وتضعف ومن ثم تنهار، كما نلاحظه في عالم اليوم، بالنسبة للعديد من البلدان، التي ليست بالضرورة أن تكون فقيرة ومعدمة.

   وما جاء على لسان الإمام عليه السلام في هذا الجانب "وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر".

   وهنا يحدد أمير المؤمنين عليه السلام الأولويات الاقتصادية والحياتية التي يفترض بالحكام أخذها بعين الاعتبار، حتى لا تنتهي الأمور الى الخراب.

   وهكذا فإن الترابط الكبير بين مختلف العناوين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع، برز واضحًا في تلك الوثيقة التاريخية البليغة والعميقة في معانيها ومضامينها ودلالاتها، لتحدد ما هو صحيح وما هو مطلوب في كل زمان ومكان، وليتم من خلالها تشخيص مكامن الضعف والوهن والخلل في جسد منظومات الحكم، وما أكثر ذلك الضعف والوهن والخلل في هذا الزمان.    

الامام علي عليه السلام

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

خبر عاجل