نقاط على الحروف
التفوّق "الثقافي": وهم المتأمركين الفاضح
ليلى عماشا
"العتالين عالبور وبساحة البرج" عبارة يستخدمها البعض في توصيف أبناء الطائفة الشيعية في لبنان، بفوقية مطعّمة بالنفَس الطائفيّ المريض، وبنرجسية ترفض أن تسمح لصاحبها أن يصدّق الواقع وأن يعتمد القياسات المنطقية في توصيف الوقائع، وبأسلوب يعكس تفاهة صاحبه وغروره الناتج عن عقم وفراغ متأصّل.
في البداية، مهنة "العتّال" كغيرها من المهن المرتبطة بالفقراء وبالمستضعفين وبمَن لم يحظوا بفرصة التعلّم الأكاديمي، هي مهنة شريفة.. مهنة يبذل صاحبها جهده كلّه ليقي عائلته ونفسه بشاعة العوز من دون أن يفكّر برهة في التخلي عن شرفه وعن طهر طينته التي حملها معه من عبق القرية ومضى إلى المدينة بحثًا عن رزقٍ حلال.
"العتّال" ذاك، ابن الأرض، الحرّ، الأبيّ، الشّريف، ربّ العائلة الطيّبة أنجبَ من رحم المعاناة ثورة على الظرف الذي أُريد له أن يقبله قدرًا مؤبّدًا، وانتزع من براثن الظلم الاجتماعيّ قدرة على ردّ المظالم عن الجميع، حتى عمّن ظلموه يومًا.. صار "العتّال" جدًّا لأحفاد يقارعون أميركا، الراعي الرسمي للظلم حول العالم، وينتصرون.
قد تبدو الحكاية من نسج العاطفة. فليكن. فالعاطفة أرض الثورة، وبيت الحكمة، وينبوع الثقافة ونواة الحرية. وقد يظنّ الواهمون أنّها حبكة بخيوط الطائفية أو المذهبية بفعل ما اعتادوا استعماله من هذه الخيوط في حبك خرافاتهم العنصرية، ولكنّها في جوهرها حكاية مستضعف انتصر لإنسانيته ولثقافته رغمًا عن المذهبيين والطائفيين. وقد تبدو تكثيفًا مبالَغًا فيه لتاريخ فئة من الناس، لكنّها حكاية حقيقية، حقيقية كما حبّات العرق على جبين العتّال وعلى جبين المقاتل في جبهات القتال المتقدّمة وعلى جبين المسعِف الذي يقاتل في الصفوف الأولى ضدّ انتشار "كورونا"، وعلى جبين كلّ المتعبين الأنقياء في الأرض، حقيقية إلى الحدّ الذي لا يمكن التعامل معها كوصمة، كما يحاول السخفاء تصويرها في استعراضاتهم الشوفينية المريضة والتي ازدادت في الفترة الأخيرة بعد افلاس "جماعة عوكر" الذهني وتغاويهم المقيت بتفوّقهم الوهمي بما يسمّونه "التعلّم والثقافة".
بعيدًا عن الدخول في جدال سطحي حول قياسات المعرفة والثقافة والتي لا يشكّل فيها المعيار الأكاديمي إلّا نسبة ضئيلة من الحساب الكلّي، وبعيدًا عن الإحصاءات الواقعية التي تشير بالنسب المئوية إلى فئات المتعلّمين والمتخصّصين في مختلف المجالات بحسب المناطق والطوائف والفئات الاجتماعية، من الجيّد استغلال التفاهة التي وصل إليها المتأمركون في لبنان لإعادة التذكير ببعض البديهيات والمفاهيم، والتي تلاعب بها هؤلاء في سبيل الترويج لأنفسهم المعلّقة على حبال شيّا، ومن سبقها ومن سيليها في عوكر الشر.
المقاومة فطرة. هي انعكاس دفاعيّ مولود كردّ طبيعيّ على كلّ ما يهدّد البقاء. والبقاء الإنساني يتطوّر طبيعيًا من فكرة التمسّك بالحياة ليصبح "المحافظة على الحياة"، وهنا تتسّع الدائرة حكمًا لتنتقل من حياة الفرد إلى حياة الجماعة، فتنتج العمل المقاوم كعمل ذهنيّ بالدرجة الأولى يحمل صاحبه إلى المحافظة على حياة الجماعة. هذا العمل الذهني الفطريّ يدفع الإنسان السويّ إلى البحث عن السلّم القِيميّ الأكثر قدرة على تحصين الحياة. ومع السلم القيمي يكتسب المقدرة على تبني المفاهيم التي تعزّز من قيمة الحياة: الحرية، الكرامة، الأخلاق، الفداء...
هذا البنيان المؤسَّس في أرض الفطرة والمدعّم بالوعي الإنساني وبمنظومة القيم والمفاهيم هو بنيان ثقافي متكامل. وهذا ما يجعلنا نستخدم في أدبيّاتنا عبارة "ثقافة المقاومة"، بل ويجعلنا نعتمد هذا المعيار في قياس وتقييم كلّ فعل وكلّ حدث وفي تقدير كل شخصية وكل جماعة.
إذًا، يصبح من السهل استنتاج التالي:
المثقّف هو الحامل لثقافة المقاومة، بغضّ النظر عن أسلوبه في تظهير هذه الثقافة. ولا دخل للمعيار الأكاديمي ولحجم المكتبة المنزلية وتعداد رفوف الكتب في البيوت بهذا الشأن. وعلى سبيل المثال، الطفل حسين الذي لم ترهبه رصاصات العدو في محاولته استعادة "دجاجته" يمتلك من الثقافة ما لا يمكن أن يفهمه أكاديمي جامعي خرج علينا منذ مدّة محاضرًا حول حقّ المتأمركين بالدعوة إلى قتل وحصار أهل المقاومة. والحاجّة كاملة سمحات، أيقونة تمّوز التي من فوق الدمار صرخت "فِدا المقاومة" تمتلك من اللغة الواعية والمثقفة ما تعجز عنه معاجم دمى الإعلام الذين من مستنقعهم المتأمرك يصوغون العمالة لغة موحدة فارغة مهما تعدّدت مصادر مصطلحاتها. وأمثلة أخرى كثيرة لا يتسع المجال لتعدادها كلّها، ولكن كلّها تؤدي بنا إلى قاعدة بسيطة: من ارتضى بيع أو تأجير أو استثمار نفسه أو بعض منها لصالح المستكبر، المعادي للحياة وللقيَم، يتحوّل بشكل تلقائي إلى أداة، ولا يمكن أن تدخل الأداة في أي تصنيف يقسم الناس بين مثقّف وغير مثقّف. هذا التصنيف محصور بشكل بديهي بالبشر الذين يمتلكون حريّة اختيار حركتهم واستخدام معارفهم. أما الأدوات فحركتهم خاضعة للمشغّل، ومعارفهم، زادت أو نقصت، هي مجرّد "عدّة شغل" لا يملكون إلا تنفيذه بحسب خطة "عوكر" أو ربّما زينة تزول مفاعيلها عند أول خطوة تحت مطر الامتحان الوطني.
نعود إلى العتّال.. إلى ذلك الرجل المثقّف حدّ الحفاظ على نفسه وحماية ثقافته من شرّ التحوّل إلى أداة ناطقة بما يلقّنها إياه أعداء الإنسانية. هو ينظر إلى جيلنا متباهيًا برجال الله الذين حملوا ثقافتهم إلى الميدان ومنه تخرّجوا شهداء وحاملي شهادات بالفداء، أعلى مراتب الإنسانية.. ويجول في المؤسسات التعليمية التي ساهمت وتساهم في توسيع الحقل المعرفي للأفراد ليقاوموا، كلّ بحسب اختصاصه، في سبيل حياة أجمل للجميع.. يربّت على أكتاف العمّال ويبتسم للساعين إلى رزقهم بشرف وبحصانة من قِيم عليا وأخلاق، ثمّ ينام مطمئنًا إلى ثقافتنا جميعًا، وربما يشفق على جهل وضآلة من يعيّرون هذا السيل من المثقفين بجدّهم "العتّال".
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024