معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

بعد حظر حسابات ترامب.. مواقع التواصل الاجتماعي وأمركة العالم
15/01/2021

بعد حظر حسابات ترامب.. مواقع التواصل الاجتماعي وأمركة العالم

علي عبادي

في 6 كانون الثاني 2018، رفضت شركة "تويتر" دعوات مستخدمين كثر لهذه المنصة الى إلغاء حساب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على موقعها، معتبرةً أن "الحسابات التي تعود لزعماء العالم تحظى بوضع خاص"، وان حذف تغريدات أحد زعماء العالم المثيرين للجدل "سيخفي معلومات مهمة يجب أن يكون في وسع الناس الاطلاع عليها ومناقشتها".
 
بيان تويتر جاء بعد تغريدة غير عادية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب قال فيها انه يملك زراً نووياً "أكبر وأقوى من ذلك الذي يملكه" نظيره الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وهو ما دفع الكثير من المغردين لدعوة الشركة الى تعليق حساب ترامب، باعتبار أنه يعرّض العالم للخطر ويمثل خرقاً لسياسة "تويتر" التي تفرض الحظر على من يهدد باللجوء إلى العنف.

لكن قبل أن يغادر ترامب البيت الأبيض بأيام، منع موقع تويتر ترامب من استخدام المنصة المفضَّلة لديه. المفارقة هنا ان إدارة تويتر عزت قرارها المستجد إلى خشيتها من "تكرر نشر رسائل تحرض على العنف" عقب اقتحام أنصار ترمب مبنى الكونغرس الأميركي يوم 6 كانون الثاني الجاري. ويطلق هذا التبرير تساؤلات:

هل اقتحام مبنى الكونغرس الاميركي أكثر خطورة من التهديد باستخدام الزر النووي لضرب بلدان أخرى في العالم؟

هل تعمل تويتر ضمن أجندة أميركية فحسب، حيث ترى أن الخطر هو ما يرتبط بالأمن الاميركي، وخارج هذا الإطار يصبح أي شيء قابلاً للنظر والتأويل والتبرير؟

هل يرتبط تعليق حساب ترامب بأجندة سياسية أميركية ترعاها "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة، بما يتجاوز التعلل بحرية التعبير؟

ولماذا لجأت هذه الشركة وأمثالها من مواقع التواصل الى تعليق او حظر حسابات ترامب ومناصريه في أيامه الاخيرة في الحكم، وليس قبل ذلك؟

يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات بالآتي:  

1- من المؤكد أن هناك ازدواجية في المعايير بين ما يصلُحُ فيه الخطاب الموجَّه لدول وشعوب العالم وما يصلُح للداخل الأميركي، على غرار الكثير من السلع التي يتم فيها الفرز بين ما هو مخصص للسوق الأميركية (والأوروبية أحياناً) وما هو مخصص لبقية أنحاء العالم وتحديداً لدول العالم الثاني او الثالث.

2- من المؤكد كذلك ان قواعد مواقع التواصل الاجتماعي، التي تتحكم بها الشركات الأميركية خاصة، مبنية على معايير ثقافية أميركية - غربية تسمح لشركات التواصل بالتحكم بالمحتوى على منصاتها بما يتوافق مع هذه المعايير، وصولاً الى احتواء الثقافات الأخرى وتذويبها ضمن ملعب الثقافة الأميركية.

3- لا بد من التذكير هنا بإجراءات منهجية لجأت اليها "تويتر" و"فيسبوك" و"يوتيوب" ضد حسابات تعمل في نطاق محور المقاومة أو تؤيد هذا الخط بذريعة ان هذه الحسابات تخرق قواعد التدوين على مواقعها، كما فعلت تويتر مثلاً عندما أوقفت حساب الإمام السيد علي الخامنئي عقب قصف قاعدة عين الأسد في العراق رداً على اغتيال القائدين سليماني والمهندس، بينما بقيت المنصة مفتوحة أمام ترامب لممارسة هوايته في التهديد والغطرسة. كذلك لجأت الى هذا التدبير بعد تغريد الإمام الخامنئي مؤخراً عن حظر دخول لقاح فايزر الى ايران، وفعلت مثل ذلك في أيار/ مايو 2017، من دون ذكر الأسباب. وحجة ان "الحسابات التي تعود لزعماء العالم تحظى بوضع خاص" التي استُخدمت لحماية ترامب في تلك الفترة، لم تكن كافية لتسري على حساب السيد الخامنئي! وثمة سجلّ حافل لفيسبوك لا مجال لسرده هنا في شأن حظر الحسابات والتغريدات لمجرد ذكر كلمات مثل "المقاومة" او "الشهيد" أو نشر صور تمجد بعض الرموز.

4- لا بد من التذكير بمناسبة اعتراض ترامب على نتائج الانتخابات وموقف تويتر وسواها ضده في هذا الصدد، أن الإدارة الأميركية في عهد الرئيس أوباما لجأت عام 2009 الى توظيف منصة تويتر التي كانت شائعة الاستخدام في ايران آنذاك لتشجيع الاعتراضات على الانتخابات الرئاسية من جانب مؤيدي المرشح مير حسين موسوي، بدعوى تشجيع حرية التعبير والتظاهر. واستدعت إدارة أوباما ممثلي تويتر الى البيت الأبيض وقررت تخصيص 20 مليون دولار لدعم البحث عن حلول تكنولوجية للوصول الى الجمهور الايراني بهدف تسعير الاحتجاج في الشارع.  

5- الأمر لا يتوقف عند المواقف السياسية، بل يصل الى محاولة فرض نمط ثقافي معياري على بقية شعوب العالم، فيتم وقف الحسابات التي تعبر عن وجهات نظر تنتقد ما يُعتبر "حريات" اجتماعية وفردية في نظر الغرب، بينما يتم تشجيع الآراء الشاذة التي تخرق قواعد السلوك والتماسك الاجتماعي في البلدان المغايرة.

6- يلاحظ أن التنوع في الثقافات والمواقف السياسية بين "فسطاطَيْ" أميركا والعالم ليس وحده ضحية السياسات الأحادية التي تتبناها مواقع التواصل المملوكة من قبل أثرياء أميركيين، بل ان هذه الشركات تتكافل وتتضامن عندما ترى أن الخطر يحيق بالنظام الأميركي من الداخل.

فالعديد من المنصات والشركات المزودة لخدمة الإنترنت في الولايات المتحدة، لا سيما فيسبوك ويوتيوب وأبل وأمازون، انبرت جميعها لتعليق أو حظر حسابات ترامب وعشرات الآلاف من مؤيديه أو وقف خدمة استضافة موقع التواصل الاجتماعي "بارلير" Parler الذي يرتاده مناصرو ترامب على نطاق واسع. تكاتفت جميع هذه المنصات اليوم لوقف ترامب عند حدّه، بعدما سمحت له طوال أربع سنوات ببثّ خطاب التفرقة والكراهية وممارسة التحريض على شعوب وحضارات أخرى (الهجوم المتكرر على الإسلام والحديث عن "الإرهاب الاسلامي" و"الفيروس الصيني")، لكن عندما وصلت الموسى الى اللحية الأميركية اختلف تقييم الخطر!

فقط بعد حظر حسابات ترامب، تحركت أصوات في أميركا وأوروبا لتتساءل عن مبررات وكيفية التحكم بـ "تنظيم عمل وسائل التواصل الاجتماعي"، ومَن هو المخوّل باتخاذ قرارات الحظر بعيداً عن أية رقابة قضائية محايدة.

 حكاية ترامب مع "تويتر" تختصر قصة رؤية منصات التواصل الغربية حيال مساحة حرية التعبير المحددة والمقبولة في نظرها. وبين 6 كانون الثاني 2018 و 6 كانون الثاني 2021، تبدو المعايير المزدوجة في أجلى صورها: ما هو مقبول لفلان غير مقبول لغيره، ما هو مقبول بالأمس غير مقبول اليوم، والمعايير شديدة السيولة تتحكم بها أقلية تتحصن بأسوار المال والسلطة وتدير العالم بمنطق أيديولوجي ناعم يفصل ما بين نحن وهُم. وخلف الزر النووي الذي يتحكم به ترامب وأمثاله، هناك أيضاً من يتحكم بزر السماح او حظر القدرة على التعبير (العودة مجدداً الى سلطة الرقابة) في عالم ينحو على نحو متزايد الى العمل والتعبير من وراء الشاشات.

 

مواقع التواصل الاجتماعيتويتر

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف