معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

أسرار التحرير الثاني.. وهواجس التحرير الثالث
07/12/2020

أسرار التحرير الثاني.. وهواجس التحرير الثالث

ايهاب زكي

مَهيبٌ إبهاره ومبهرة مهابته، كأنّ المجد يتعبد في محرابه، وكأنّ الثرى أينما يخطو ثريا، فهذا الحزب الذي وُلِد من رحم النار، النار التي اجتاحت بيروت عام 1982، غدا نوراً تتألق به جباه أمته. إنّه الحزب الذي انتعل عنجهية "إسرائيل" وصلفها، حزبٌ تسربل بالمجد وتزنّر بالنصر، وارتدى عفة القوة وسؤددها، حيث استطاعته لا مردّ لها، وأخلاقه بها ذرى تتسامق فلا تُرى، ومعاركه لا تتخللها صغائر النوايا ولا حقيرات المُنى، والثغور تخشى نزوله، ولو كان المنون نزيلها، وليوثُ غِضابٌ إذا أزَّ رصاصُ المعارك، ونُساكٌ إن قُشع غبارها، لا يخوضون حروب الهوى، ولا يؤوبون إلّا بالنصر، وكأنهم ينتصرون لأنّه لا هوى نفسٍ في حروبهم، فنُبل الفوارس لا يتبدى إلا في نبيل المعارك، وسمو المعركة من سمو الهدف، كما قال عمرو بن كلثوم يوماً، "فآبوا بالنِهاب وبالسبايا.. وأُبْنَا بالملوكِ مصفدينا"، فعادوا أينما خاضوا منذ 2006 بالشرق الأوسط الجديد مصفداً، والتصفيد مصير ملوك بني "إسرائيل" يقينا.

ما سبق ليس شعراً بل حقائق لا تقبل القسمة أو التأويل، فالتاريخ ليس أعور وإن كان الحاضر دجالاً. قبل أن يفور تنور الطوفان بطرفات عينٍ، كان القوم يستهزئون بالسفينة، التي يبنيها نوحٌ في الصحراء، وصحراؤنا اليوم بكل ما أوتيت من حقدٍ وغدرٍ وجلافةٍ، يملؤها التطبيع والخيانات والاستهزاء بسفينة البندقية، صحراءٌ تملك أموالاً كالرمال، تسخّرها في خدمة "إسرائيل"، وفي مواجهة بندقية النجاة، لكن هؤلاء البؤساء لا يدركون أنّ الطوفان قادم، فحين تتفجر الأرض قنابل وتنهمر حِمم السماء، لا مال ينفع ولا إعلام ولا جنود ولا جبال، فلا عاصم يومها من أمرٍ قد قُدر، وقطعاً تابعت "إسرائيل" معارك الجبال في أسرار التحرير الثاني، ويدها ترتعش على جليل فلسطين، والجليل الذي خاطبه أحد مقاتلي حزب الله في البرنامج قائلاً "والجليلُ بالإشارة يفهم"، قد فهم أنّه البداية لأمّ البدايات وأمّ النهايات، و"إسرائيل" فهمت أنّها حين تناور لـ"الدفاع" عن الجليل فهي تدرء طوفان الزوال، لا مجرد معركةٍ قابلة للاستدراك، لذلك فهي لن تخطو ولو خطوة نحو الحرب، ولو صُفعت على أمّ جبينها بالنعال، وهي بين خيارين لا ثالث لهما، زوالٌ معجلٌ إن أقدمت على الحرب، وزوالٌ مؤجلٌ إن انتظرت أوارها.

لا شيء يشبه "إسرائيل" اليوم إلّا الذبح الحلال، فذبح اللاحمات في الشريعة الإسلامية لا يجيز قطع الرأس، حتى يبقى المخ مرتبطاً بالنخاع الشوكي، فيظل قادراً على إصدار الأوامر، ويظل الجسم قادراً على استقبالها، فينبض القلب بسرعةٍ للنجاة وتعويض النزف، ولكنها آليةٌ فيها الهلاك المحتم، فيصبح اللحم صافياً حلالاً بلا ملوثات، و"إسرائيل" الآن ذبيحة هواجسها، حيث استقر في عقلها أنّ ردعها ينزف وقوتها تُستنزف، فتعطي الأوامر لقلبها بسرعة النبض، وقلبها جيشها ينبض بسرعة 20 مناورة في الساعة، وفي كل مرةٍ تكتشف أنّ سرعة النبض لا تحيي الموتى؛ فمثلاً قد عرضت الحلقة الأخيرة من برنامج "أسرار التحرير الثاني" مشاهد جوية مصوّرة لمواقع عسكرية "إسرائيلية"، وذلك في ذروة المناورات التي تجريها لمنع اختراق جوّي، يقوم به حزب الله لسماء فلسطين المحتلة، وهذا ليس أمراً عابراً، إنّه مقدمةٌ لما قاله ضابطٌ في حزب الله في البرنامج موجهاً كلامه لضباط وجنود العدو، "سترَون وجوهنا عن قرب"، وهذا القرب لا يكون إلّا في فلسطين المحتلة. إنّ الرعب الذي تختزله هذه العبارة، يكفي لزلزلة قلوب أركان العدو، وتكفي لأن يعرف العدو جنوداً وضباطاً ألّا حصون تمنعهم، مهما ظنّوا فيها المنعة، وأنّ وجوههم خاسئة يوم تبيضَّ وجوه.

إنّ الكلام الذي قالته "إسرائيل" عن حزب الله لا تكفيه البحور مداداً، وكمّ المعلومات التي تكشفها أو تخترعها، لا تكفيها الأشجار أقلاماً، ورغم ذلك فهي تدرك أنّ كل هذا مجرد غيضٍ من فيض ما لديه، وأنّ الاقتدار الذي رأته في أسرار التحرير الثاني، هو رأس جبل الجليد الذي أراد الحزب أن تراه، وأنّ الكاميرا التي أخفت وجوههم ليوم اللقاء المحتوم، هي ذاتها التي أظهرت كفاءتهم العسكرية وشجاعتهم الميدانية، وكشفت عمق إيمانهم بما يفعلون، وبراعتهم التعبيرية عن أعقد المفاهيم العسكرية بسلاسةٍ وبساطة، كما كشفت أخطر أسلحة الحزب، وهو انصهار الإيمان بالعقل، وامتزاج الشجاعة بالبصيرة، لذلك فأنا كأحد من شاهدوا برنامج أسرار التحرير الثاني من ضفة حزب الله، رأيته مناورة بالرصاص الحي للتحرير الثالث في الجليل وما جاوره، فيما رآه مَن على ضفة "إسرائيل"، أنّه هاجس الزوال وإرهاصات النهاية، وكل هذا الزخم في جبهةٍ واحدة، فكيف إذا أضاف لها العقل "الإسرائيلي" الجبهة السورية والجبهة الجنوبية وجبهة الرعب الإيرانية، فلا مناص لها سوى التدلل قليلاً في صحراء التطبيع، قبل يوم التذلل الآتي، الذي يحفر رجال الله استعداداً له في الصخور، ويمدون حبال الصعود إلى السماء.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف