معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

رحيل المعلم: عميد الدبلوماسية الشجاعة
17/11/2020

رحيل المعلم: عميد الدبلوماسية الشجاعة

عبير بسام
رحل عميد الدبلوماسية السورية الشجاعة، وزير الخارجية وليد المعلم. قد لا ينتظر العالم بعد رحيله طويلاً ليمضي في طريقه. ولكن المعلم ترك بصمة لن ينساها هذا العالم، ولن ينسى المواجهات التي قادها وجعلت منه رائداً ومدافعاً عن حقوق بلاده في المحافل الدولية.

قاد المعلم الدبلوماسية السورية في أصعب أيامها منذ العام 2006، ووقف مدافعاً شرساً هادئاً حازماً في طريق النضال ضد الصهيونية ومن أجل استرداد حقوق الشعب العربي والفلسطيني ومدافعاً عن المقاومات العربية ضد الاحتلالات على أراضيه.
 
كان يجب أن تكون مناسبة الحديث البارحة، في السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، عن اليوبيل الذهبي للثورة التصحيحية التي قادها الرئيس حافظ الأسد ورفاقه منذ خمسين عاماً، والتي جاءت من أجل تصحيح المسار السياسي والاقتصادي في سوريا، والتي فعلت فعلها، وجعلت سوريا دولة مستقلة وذات اقتصاد قوي ومتطور، حتى بلغ ناتجها القومي قبل الحرب عليها 0.45%، وهذا ليس بالشيء الهين. سوريا حتى اليوم ليس لديها أزمة ديون خارجية، وحتى بعد حرق قمحها في ربيع العام 2020، من قبل الإرهابي الأميركي ويده اليمنى مجموعات "قسد" و"داعش" وغيرها، والتركي ومجموعاته الإرهابية من "النصرة" وأخواتها، لم تحتج لاستيراد كلغ واحد من القمح من خارج البلاد.. وما زالت تكتفي ذاتياً على مختلف الصعد.

قاد المعلم السياسة الخارجية في ظروف داخلية صعبة جداً ولكنه كان في الحقيقة مصدر أمان بالنسبة للسوري على الصعيد الوطني والقومي. واليوم ينتظر السوريون الاسم الجديد، والذي يجب أن يكون اسماً "معلماً" آخر على قدر الدبلوماسية الشجاعة التي عرفتها سوريا منذ انطلاق الحركة التصحيحية في العام 1970 وحتى اليوم. اذ لم يكن تأثير رحيل المعلم على السوريين بالبسيط، فقد ضجت صفحات التواصل الاجتماعي بصوره وبتحيته والترحم عليه، وهذا ما يثبت أنّه مثّل إرادة جامعة في سوريا حول قضايا الوطن والأمة العربية؛ مع أن الصفحات نفسها تنتقد الوضع الاقتصادي، وسياسات الدولة بما يتعلق بتأمين احتياجات المواطنين الأساسية، والتي انتقدت تقنين بيع الخبز والبنزين واستخدام البطاقات الذكية في تأمين المازوت من أجل دفء الشتاء الماضي والقادم، ولكنها اليوم ترثي المعلم.

وهذا ما يؤكد أنّ المواطنين السوريين، الذين يحب البعض اتهامهم بأنّهم مذعنون، والبعض الآخر يحب اتهامهم بأنّ ولاءهم أعمى، هم ليسوا كذلك. هم ينتقدون حيث يجب الانتقاد، وهم في الوقت نفسه يعرفون من هم الصامدون في سوريا، والذين رفضوا مغادرتها على الرغم من جميع الأخطار التي تعرضوا لها خلال الأعوام التسعة الماضية، ويعرفون كيف يكرمون الرجال الرجال. كلمات الوداع التي رافقت المعلم على صفحات التواصل جاءت من الجميع: مقيمين ومغتربين.

من لا يتذكر مواقف المعلم في المؤتمرات الدولية منذ تسلمه وزارة الخارجية وحتى اليوم، مواقف شجاعة أبداها إبان حرب تموز/ يوليو في العام 2006، عندما أذعن وزراء الخارجية العرب للطلب الصهيوني بالقدوم إلى لبنان في طائرة واحدة، لأن الصهيوني أغلق مجال لبنان الجوي، بينما رفضت سوريا الرضوخ لطلب "الإسرائيلي، وجاء المعلم عبر البرّ متحدياً القرار الصهيوني، وكيف غادر متجهماً عندما وقفت دول عربية ضد المقاومة واتهمتها بأنها تأخذ المنطقة نحو الخراب فكان موقف المعلم يومها: "كيف نأتي إلى هنا لمناقشة الموقف المتفجر في لبنان بينما يقوم آخرون بانتقاد المقاومة". واتهم البعض بإفشال الاجتماع الوزاري الذي من المفترض أن يدعم لبنان وحزب الله.

في كل اجتماع وفي كل مناسبة عبر هذا الرجل عن أنه جزء لا يتجزأ من مدرسة الحركة التصحيحية، وجزء من المدرسة الوطنية والقومية في سوريا، والتي أسس لها حافظ الأسد. وأسكت كلًّا من جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، وبان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، المعترضين على طول كلمته حول الواقع في سوريا، ورفض أن يعتقد أحد أنّ لديه الأولوية في الحديث عن سوريا، خلال مؤتمر جنيف الثاني في العام 2014، وقال له كلمة بقيت في أذهان الجميع وستبقى لأنّ المعلم دخل التاريخ من أوسع أبوابه: "سيد كيري.. لا أحد في العالم له الحق في إضفاء الشرعية أو عزلها أو منحها لرئيس أو حكومة أو دستور أو قانون أو أي شيء في سورية إلا السوريون أنفسهم".  لم يتحدَّ وزير خارجية عربي الولايات المتحدة كما تحدّاها الوزير المعلم، وهو يعرف المخاطر التي تحيق به شخصياً في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها سوريا، ولم يتراجع حتى اليوم الأخير في حياته.

رحل الرجل، وترك وراءه إراثاً كبيراً من المواقف الدبلوماسية الشجاعة التي جسدت مواقف سوريا الوطنية والقومية والأخلاقية. وساهم في تكريس استراتيجية سوريا المستقلة في القلوب والعقول. كان حاضر البديهة، كان جوابه حاسما وجازما ولاذعا لكل من تسنى له التطاول على سوريا وسيادتها، في زمن هرب فيه زعماء عرب أمام الضغوط الأميركية والغربية إلى أحضان العدو الصهيوني. وصف أعداء سوريا في الغرب وبكل حزم وجرأة وواجههم بأنهم كاذبون ومنافقون. رحل الرجل وهو حاضر في ضمير الموقف السوري وفي أزماته وفي انتصاراته وهو يقاتل من أجل بلاده وسيفه ما زال مسلولاً.

رحل المعلم، وفي كل عام وفي السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر ستحتفل سوريا بحركتها التصحيحية وسيكون حاضراً في أذهان السوريين جميعاً، أنّ هذا اليوم هو ذكرى رحيل مقاتل سوري شجاع، عاش حرّاً في ضمير الأمة العربية وأحرار العالم وحتى في ضمير أعدائه. فالسلام لروحه المحاربة الحرّة.

وليد المعلم

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف