معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

ماذا تبقى من ركائز الهيمنة الأمريكية؟
12/10/2020

ماذا تبقى من ركائز الهيمنة الأمريكية؟

ايهاب زكي

"الجيش" الذي قام بكلِ صلفٍ وعنجهيةٍ وغدر، بإغراق السفينة الأمريكية "يو إس إس ليبرتي" في البحر المتوسط أثناء حرب حزيران/يونيو عام 67، لا يزال منذ ما يقرب من الثلاثة أشهر مختبئاً كفأرٍ مذعور، حيث سبابة السيد نصر الله تلاحق مخيلات جنرالاته كأسوأ الكوابيس، ووعيده بقتل جنديٍ كأنّه سَوطٌ من نارٍ يسوِّر قلوب كل الجنود، بينما حين أصدر موشي دايان أوامره بإغراق السفينة الأمريكية، وقُتل على متنها ما يقرب من 40 ضابطاً وجندياً أمريكياً مع إصابة العشرات، كان هذا الغرور يرتكز ليس فقط على قدرة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، بل يرتكز بالأصل على معرفته بالحاجة الأمريكية المُلحة لوجود "إسرائيل" وبقائها، لذلك استطاع البيت الأبيض كظم غيظ البنتاغون وأجبره على تجاوز الإهانة حدّ العار، رغم أنّ التحقيق في القضية بقي مفتوحًا منذ الإغراق وحتى عهد أوباما الذي فعل كسابقيه، بتجميد التحقيق. وأمريكا التي ابتلعت الإهانة بإغراق كرامة أسطولها مع "ليبرتي"، لم تحتمل غسيل نتن ياهو الوسخ، فسربت أخباره للإعلام على شكل فضيحة.

في اجتماع مجلس الأمن القومي الأمريكي برئاسة الرئيس ليندون جونسون صباح الخامس من حزيران/يونيو، وتقارير الحرب -67- تتوالى على غرفة العمليات هذه، قال الرئيس الأمريكي ليندون جونسون "يجب كسر ناصر، فلا نريد أبطالاً ولا نريد أعداءً ذوي قيمة في هذه المنطقة"، ثم قال بصيغة الأمر "كما أطلقنا "إسرائيل" على ناصر، اتصلوا بـ(يوجين بلاك) في البنك الدولي للإجهاز عليه اقتصادياً". ورغم أنّه في ذات اليوم قد طلبت منه ماتيلدا كريم، وهي احدى أهم أعضاء اللوبي الصهيوني في أمريكا، أن يعلن بشكلٍ قاطع عن قطع العلاقات مع مصر، وأنّ ناصر لم يعد أهلاً للتعامل طالما بقي عدواً لـ"إسرائيل"، لكنه رفض ذلك قائلاً إنّه لا يجوز، فالذي وجّه بكسر ناصر عسكرياً واقتصادياً (وإن كان الهدف النهائي هو إزاحته من المشهد كلياً) يرفض إعلان قطع العلاقات بشكلٍ علني، وهذا ليس مستغرباً في السياسة، خصوصاً السياسات الإمبراطورية، التي لها ألف يدٍ وألف وجه، وإن بدت أحياناً أفعال أيديها متناقضة، لكنها تصبو في النهاية إلى هدفٍ واحد.

قال روبرت كابلين، وهو أحد أهم المفكرين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة، عبارة قد تبدو دراماتيكية، لكن حتماً لها أسبابها. فقد قال عن الاتفاق الاستراتيجي الذي جرى توقيعه بين الصين وإيران "إنّ هذا تحالفٌ لا يُهزم"، وهذا يعني أنّ كابلين رأى في هذه الاتفاقية نقطة تحول وليس مجرد تفصيل على المسرح الدولي والإقليمي، وقد يكون هذا في أحد جوانبه هو سر التطابق في الموقف الأمريكي، بين بايدن وترامب من العودة للاتفاق مع إيران رغم التطاحن الانتخابي بينهما، حيث قال ترامب بعقد اتفاق مع إيران بعد شهرٍ من انتخابه، فيما قال بايدن إنّه سيعود للاتفاق النووي في حال انتخابه، وهذا تطابق في الرؤية وإن اختلفت أساليب التعبير أو أساليب الوصول للهدف.

أمّا في سوريا فالحرب حُسمت وإن لم تنته المعارك بعد، من خلال وحدة الجغرافيا ومركزية الدولة وتماسك الجيش، وأيضاً صمود الموقف، وهو ما يعني هزيمة المشروع الأمريكي الذي كان معداً لسوريا وللمنطقة. وتدرك الولايات المتحدة أنّ تطهير الجغرافيا السورية من الإرهاب وفلوله في إدلب، وإخراج القوات الأمريكية والقواعد التركية هي مسألة وقتٍ وتوقيت لا أكثر، ويمكن القياس على الأوضاع في العراق واليمن، حيث ترجح الكفة لصالح مشروع المقاومة.

بعد أكثر من نصف قرن من ذلك الاجتماع الأمريكي في مجلس الأمن القومي، لم تختلف ركائز مشروع الهيمنة الأمريكي إطلاقاً، فالركيزة الأولى هي تفوق عسكري "إسرائيلي" ليدخل الجميع بيت الطاعة، والركيزة الثانية هي الحرص على عدم بروز قيادة ذات قيمة أو ذات حسٍ بطولي، أمّا الركيزة الثالثة فهي العقوبات الاقتصادية، التي وجّه فيها جونسون البنك الدولي للإجهاز على ناصر، ولكن ما اختلف هو مآلات تلك الركائز، حيث إنّ الكيان "الإسرائيلي" لم تعد لديه القدرة على الهجوم، بل ويتعذر عليه حتى الدفاع، أمّا السعي المتواصل والحرص الدؤوب على ألّا تنجب هذه المنطقة بطلاً أو قائداً له قيمة، وعدم تكرار تجربة ناصر، وهو واحد، فقد أنجبت المنطقة قادةً على امتداد ساحاتها في لبنان وسوريا وإيران والعراق واليمن، بغض النظر عن اختلاف الأزمنة وقدرة المعسكر الأمريكي على الشيطنة.

إذاً تبقى من الركائز الأمريكية للهيمنة فقط ركيزة البنك الدولي -الركيزة الاقتصادية-، وهذا ما جعل "روبرت كابلين"، يصف الاتفاق الصيني الإيراني بأنّه "حلفٌ لا يُهزم"، حيث قدرته على تجاوز العقوبات الأمريكية والتغلب عليها، لكن لا شك إنّ هذه الركيزة لا تزال فاعلة وقادرة على الإيذاء، كما هو الحال في لبنان وسوريا، لكنه إيذاء مؤقت، حيث الإدراك الأمريكي بعدم القدرة على البقاء طويلاً في المنطقة، لذلك تحاول تهيئة المسرح لما بعد انسحابها، مرتكزة إلى خلق واقع اقتصادي يربط خزائن دول المنطقة بإنشاء العلاقات الاقتصادية مع "إسرائيل"، وإفراغ خزائن الدول الرافضة لذلك الربط. فقديماً كانت "إسرائيل" كلباً أمريكياً عسكرياً، تطلقه أينما تشاء وعلى من تشاء، لكن مع تكسر أنيابه وتهشم مخالبه تريده كلباً اقتصادياً، يتحكم بطرق التجارة ومفاتيح الاقتصاد وأسرار التكنولوجيا.

لكن ما قد يغيب عن الولايات المتحدة في ظل وقوفها على منحدرٍ انتخابيٍ خطر، هو أنّ خروجها من المنطقة لا يعني انسحاباً عسكرياً فقط، بل يعني خروجاً كاملاً بلا أي أصابع أو ذيول من أيّ نوع.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف