معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

مقتل جندي واحد أم مقتلة الكيان؟
31/08/2020

مقتل جندي واحد أم مقتلة الكيان؟

ايهاب زكي

من عايش مراحل الصراع مع العدو الصهيوني في حياته، أو عايشها عبر القراءة التاريخية مثل من هم أقراني، وعايشوا ورددوا المثل الشعبي "كل موتة يهودي" للدلالة على الندرة والتباعد الزمني، خصوصاً أنّ "البروباغندا العسكرية الإسرائيلية" كانت ترسخ فكرة حرص "جيش" العدو الشديد والمطلق على حياة جنوده ومستوطنيه، فكان لا بدّ أن يصاب بالمفاجأة أثناء انتفاضة الأقصى التي اندلعت في فلسطين المحتلة عام 2000. أقله على المستوى الشخصي وكتجربة شخصية، كنت متفاجئاً جداً من قدرة "إسرائيل" على تحمل القتل، حيث اعترفت "إسرائيل" رسمياً بمقتل 1113 صهيونياً وجرح 4500 بين عسكري ومستوطن، وهذا عددٌ لم تعترف به أثناء اجتياح لبنان عام 1982، والأرجح أنّ عدد القتلى والجرحى كان أكبر من ذلك، وهذا رغم شدة التحصينات للمواقع والجنود ما دفع وزير الحرب حينها شاؤول موفاز للقول "إنّ الجندي الذي سيُقتل مع كل هذه التحصينات سألاحقه إلى قبره لأسأله كيف قُتل"، وكان سبب المفاجأة الأول هو أنّ اليهود "الإسرائيليين" يموتون بكثرة وبشكلٍ متلاحق دون فواصل زمنية، أمّا السبب الثاني فهو أنّ "إسرائيل" لا يدفعها قتل جنودها ومستوطنيها للتنازل أو وقف قتلها للآخرين.

من هذه اللمحة التاريخية التي أراها غاية في الأهمية نفهم العقلية "الإسرائيلية" ودراسة الموقف الحالي على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، فمنذ شهر تقريباً يقف "الجيش الإسرائيلي" على "إجر ونص" انتظاراً لردٍ يعرف أنّه محتوم على استشهاد مقاتل حزب الله علي كامل محسن في غارةٍ صهيونية على دمشق، وفي تطور لافت كما ترصده مَن عينُه على الميدان، وهي ميزان الميدان، قال السيد نصر الله إنّهم "يختبئون كالفئران"، ويختبئون خشيةً من مقتل جندي، وهنا تبدو المفارقة التي بحاجة إلى بحث وتدقيق، فكيف يكون لمقتل جنديٍ واحد كل هذا الرعب الذي يعيشه الكيان؟ وكيف يكون كل هذا الإذلال الذي يعيشه الكيان هو ثمنٌ مستساغٌ حرصاً على حياة جنديٍ واحد؟ وكيف يصبح الحرص على حياة جنديٍ واحد مقايضة مقبولة مع شللٍ تام لكل الجبهة الشمالية؟ فهذا الكيان يعيش حالةً من الإذلال لم يعهدها عبر تاريخه، فيما المقاومة تراقب بجِد وتتحدث بثقة وتتحين بحزم.

من هنا نستطيع أن ندرك أمرين على درجةٍ عاليةٍ من الأهمية:

- الأول: هو أنّ "إسرائيل" ليست ذليلة بسبب خشيتها على حياة جنديٍ واحد، بل من خشيتها على حياة الكيان برمته، حيث السقف المرتفع للتهديدات "الإسرائيلية" فيما لو ردَّ حزب الله، يجعلها بين خيارين أحلاهما مرّ، أولهما ابتلاع الإهانة، وهو الأمر الذي ستكون له انعكاسات داخلية على مستوى الأوزان الانتخابية، كما على وعي المستوطنين ومعنوياتهم، بكل ما لذلك من انعكاسات متوسطة وطويلة الأمد على فكرة جدوى البقاء وقبل الجدوى القدرة، وخارجياً على مستوى التطبيع المتسارع وإن بدرجةٍ أقل، حيث إنّ المطبعين يعملون بـ"ريموت كنترول" البيت الأبيض لا بقواعد الواقع أو المنطق، وثانيهما الردّ على الردّ الذي قد يأخذ الأمور إلى حربٍ مفتوحة، يدرك العدو أنّه خاسرها الأكبر.

- الثاني: هو أنّ "إسرائيل" لم تعد تجيد الحرب، فوزير الحرب الأسبق شاؤول موفاز الذي كان يريد ملاحقة الجندي القتيل إلى قبره ليحمله مسؤولية موته رغم كل الإمكانيات الممنوحة له، يستطيع الآن أن يسأل "الجيش" مجتمعاً والكيان مجتمعاً عن سبب الذِلة والهزيمة رغم كل هذه الإمكانيات، فالحرب ليست مجرد عددٍ وعدة، بل هي الروح التي تقاتل، و"الجيش" وكيانه افتقدا روح القتال، فإنّ تعاظم قوة محور المقاومة والمواجهة أصابهما بالإحباط المزمن، ورسَّخ في يقينهما عدم الجدوى مهما اجتهدا.

أكدّ السيد نصر الله أنّ حزب الله ليس حزباً استعراضياً، وكتبت سابقاً أنّ "إسرائيل" تدرك أنّ حزب الله ليس حزباً استعراضياً، ولكنها تعاني من ضيق الخيارات فتحاول التعامي عن إدراكها القطعي هذا، فتفتعل المسرحيات القتالية العبثية على الحدود ليرى فيها الحزب فرصة للنزول عن الشجرة، رغم أنّها تعرف أنّه لم يصعد الشجرة أصلاً، بل يقف على أرضٍ صلبة وثابتة، وهذه السلوكيات حوّلت جنرالات العدو إلى "أراجوزات" محدودي الذكاء، وقد ذكروني بجنرالات فرنسا مع بداية الحرب العالمية الأولى، الذين كانوا يعيشون في زمن ما قبل الجيوش العصرية، ولم يدركوا بعد أنّ معارك القتال المباشر رجلاً لرجلٍ قد تلاشت إلى حدٍ كبير مع اختراع الأسلحة الحديثة، حيث دخل الجيش الفرنسي ساحة المعركة المنبسطة في "مورهانج" بكامل أناقته، مصطحباً فرقاً موسيقية لتحميس الجنود، فكان أن أمطرهم الجيش الألماني بالمدافع، فقُتل آلاف الجنود وأُسر عشرات الآلاف. الفرق الوحيد بين جنرالات فرنسا وجنرالات "إسرائيل"، هو أنّ جنرالات فرنسا لم يكونوا يدركون قوة العدو، لذلك كان استدراك ما فاتهم أمرا ممكنا، بينما جنرالات "إسرائيل" يدركون قوة من يتربص بهم، فلا شيء فاتهم ليستدركوه، لذلك فكل محاولات الاستدراك بلا طائل، ولا خيار أمامهم سوى انتظار مقتل جنديٍ صهيوني، وعليهم التفكير من الآن في خياراتهم، هل يعتبرونها ذلة وتمر، أم يجعلونها لكيانهم شرارة لا تذر.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

خبر عاجل