نقاط على الحروف
أمريكا توحد ونحن نفرق
ايهاب زكي
"ويحكى عن بعض ملوك الهند وكان شاباً حسناً أنّه جدر، وقد نظر إلى وجهه في المرآة وقد تغيّر، فأحرق نفسه وقال أريد أن ينقلني الله إلى صورةٍ أحسن من هذه".
من رسالة الغفران للمعري.
قتل النفس لم يكن يوماً علاجاً فكيف بقتل الأوطان؟ ومفهوم الأوطان منذ بدء ما يسمى بـ"الربيع العربي" لم يعد بداهةً، حيث استطاعت الماكينة الإعلامية المعادية، كما الجمعيات الممولة أمريكياً، أن تفصل الشعوب عن أوطانها على المستوى القيمي، مع التنويه أنّ هذا الحديث في إطار التبعيض لا التعميم. ولكن هذا التبعيض كافٍ ليكون حصان طروادة، ولأنّ الساعين لتثبيت الهيمنة الأمريكية على المنطقة، ينفخون سموماً في روع الناس، ليتورَّموا حنقاً على المدافعين عن حقوقهم، فهُم يحاولون تكريس مفهوم اختزال الوطن بشاشة الصراف الآلي، أو بالطبقة السياسية في أفضل الأحوال، والمفارقة أنّ الطبقة السياسية تكون أحياناً منتجًا أمريكيًّا، إلّا أنّ الناس يخرجون للتصويب على من يجابه الولايات المتحدة، وتسطيح الوعي كان مدخل الولايات المتحدة لاحتناك البعض إلى المرآة، فيروا أوطانهم التي جدَّرَتها هي فيحرقوها.
ونحن إذ نتعامل مع أوطاننا بالقطعة، فإنّ الولايات المتحدة و"إسرائيل" وأتباعهما يتعاملون مع أوطاننا بالجملة، فمهما كان لون جواز سفرك فأنت عدو، فالساحات المستهدفة بالتأزيم اليوم في لبنان والعراق وسوريا واليمن وإيران، هي ساحةٌ واحدة وعدوٌ واحد بالنسبة للولايات المتحدة و"إسرائيل"، والهدف واحد وهو نزع كل مقومات القوة عن هذه المنطقة وسلب شعوبها القدرة على الرفض. أمّا إن كنت ترى العالم من مطبخك فهذا شأنك، أو إذا كنت ترى أنّ جواز سفرك هو صراطك المستقيم إلى الجنان، فأنت ترتكب الخطأ الفادح الذي تجتاح من خلاله أمريكا و"إسرائيل" دماغك، فما يحدث من مراوحة في لبنان مثلاً سيطول لأنّها حتى اللحظة لم تستطع انتزاع تنازلاتٍ تمس الأمن القومي اللبناني يشكلٍ مباشر، أو تلامس جغرافيا وديموغرافيا المنطقة بشكلٍ غير مباشر. فحزب الله في لبنان والعهد يمسك السلم الأهلي في يمناه والثوابت والحقوق الوطنية في يسراه، ويتعرض للضغط الهائل دولياً وإقليمياً ومحلياً لدفعه لمنطق الاختيار من زاوية التخيير بينهما، فيما هو يسعى للفوز بالحسنيين، وهذا الصراع سيجعل حساب الجولة ليس بالوقت، فالولايات المتحدة لا تدير معركتها في بيروت فقط بل في طهران أيضاً.
أمّا في العراق فيبدو الواقع أشد مضاضة، حيث تبدو أمريكا و"إسرائيل" أكثر صلفاً وفجاجة، ففي العراق سفارة أمريكية تجمع 15 ألف موظف، يتدخلون في كل شيء سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، والصورة التي يصدّرها إعلام النفط هي استهداف إيران بالحراك، وأنّها السبب المباشر لكل الأزمات السياسية والمعيشية في العراق، والعراق بعد أن أقرَّ دستور بريمر فدرلته، ثم فشل تقسيمه عبر داعش، تجري الآن محاولة شرذمته بسكين الحراك، خصوصاً من خلال إعمال القتل والتخريب والحرق، فالولايات المتحدة ترى في العراق كنزاً استراتيجياً، فبعيداً عن ثرواته النفطية فهي تراه العازل الأكبر لإيران وتقييدها داخل حدودها، وتريد تحويل العراق لخط دفاعٍ أول عن "إسرائيل"، من خلال قطع حلقة الوصل بين إيران ومحورها المجابهَين للهيمنة الأمريكية، لذلك يتم التصويب على إيران واستهداف الحشد الشعبي، الذي تراه الولايات المتحدة كتهديدٍ مباشر ليس لمشاريعها فقط بل لوجودها في العراق، فانتصار الحشد في معركته مع داعش، كما توجهاته المعلنة بالتحالف مع محور المقاومة واتساقه حول عناوين الصراع الرئيسية في كل الساحات مع المحور، يجعل شيطنته ومحاولة تفكيكه هدفاً أمريكياً مصيرياً، وهذا أيضاً سيجعل حساب الجولة في العراق ليس بالوقت، لأنّ التفاوض ليس في بغداد فقط بل في طهران أيضاً.
وفي اليمن كذلك، فإنّ السعودية هي المفاوض الأخير، فأمريكا تحاول مساومة إيران في اليمن، ولا يمكن أن تُحسب كذلك الجولة بالوقت، والتفاوض كذلك ليس في صنعاء فقط بل في طهران أيضاً، ففي كل الساحات تحاول الولايات المتحدة أن تجمع الأوراق التفاوضية لمساومة إيران، فضلاً عن كونها تجمع أوراقاً للمساومة محلياً، وعليه فإنّ الولايات المتحدة توحدنا على عدائها، لكننا نتفرق ونعادي أنفسنا، ونتحرك في مضمار رسمته سلفاً، ونغرق في تفاصيل ثنائية فساد السلطة ومعيشة المواطن، ولا نكتفي بهذا العوار، بل نهاجم أعداء الولايات المتحدة، صاحبة الحق الحصري بإنتاج الفساد وتبني المفسدين ليصبح العوار عمى، واستمرأنا -في سلوكٍ غير مفهومٍ بشرياً- استدعاء المجتمع الدولي-أمريكا- لإنقاذنا، وكأنّ في يد الجلاد غير السوط، ولكن رغم هذا الزبد الذي يحاول أن يوحي بأنّ الأرض تميد بنا، إلّا أنّ الحقيقة أنّ محور المواجهة يقف على أرضٍ صلبة، ويسير بثقةٍ نحو كسب الجولة وإن ببطء، فمهما جمعت الولايات المتحدة من أوراق، فهي بالنهاية بلا رصيد يؤثر على المآلات، بالضبط كما هو الدولار، مجرد أوراق لا قيمة حقيقية لها سوى الثقة بالخزانة الأمريكية، وأخيراً كما أقول دائماً، إنّ الولايات المتحدة تلعب النرد، فيما محور المواجهة يلعب الشطرنج.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024
أن تصبح سردية العدو شغل LBCI الشاغل!
18/11/2024
عن قائد كتيبة الإعلام المحارب..
16/11/2024