معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

29/10/2019

"حراك المطالب" بين الإعلام الفاسد والتمويل المشبوه

محمد أ. الحسيني

يشهد التاريخ على أن بيروت كانت على الدوام عاصمة الحرف ومنبر الإعلام والكلمة الحرة، وصدّرت الكثير من الشخصيات الإعلامية التي تركت أثرها في الإعلام العربي والدولي. لكن الإعلام في لبنان لم يكن في يوم من الأيام مستقلاً، بل كان على الدوام ناطقًا باسم أحزاب ويعكس أفكار وتطلعات ورؤى تيارات سياسية وثقافية واجتماعية، كما كان واحدًا من الأدوات الأساسية التي استخدمتها هذه الأحزاب والتيارات في ترجمة مواقفها حيال المحطات المختلفة على مدى تطوّر الكيان اللبناني سياسيًا واجتماعيًا وهويةً. ومثّلت الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزة ولاحقاً الفضائيات والمواقع الالكترونية منصّات إعلامية عملت على تظهير مواقف وسياسات الجهات الداخلية والخارجية التي تدعمها وتموّلها وتؤمن مقوّمات استمرارها.

وغالبًا ما شهدت وسائل الإعلام اللبناني تقلّبات في أدائها نتيجة انتقال أو اختلاف جهات التمويل التي تقف وراءها، ولكن لم يسبق أن التقت مجموعة من هذه الوسائل على هدف محدّد، على الرغم من أنها بالأمس القريب كانت متضادة ومتباينة بشكل حادّ في المواقف السياسية، ونقصد هنا قنوات lbci وmtv والجديد، وهي القنوات التي استنفرت كامل عتادها وعديدها لتتولّى وظيفة الترويج لـ"الحراك الشعبي" الذي انطلق في 17 تشرين الأول / اكتوبر 2019. وهذا لا يعني أن محطات التلفزة اللبنانية الأخرى أسقطت الاهتمام بهذا الحراك على مستوى النقل الإعلامي، ولكن المفارقة هي في اعتماد هذه القنوات حراكًا إعلاميًا موازيًا للحراك الشعبي باتجاه تظهيره على نحو آخر لا يقف عند حدود المطالب الاجتماعية والمعيشية، بل مواكبة وترجمة ما يقف خلف هذه المطالب من أهداف سياسية ليس أقلّها إسقاط رأس الدولة واستقالة الحكومة وإجراء انتخابات نيابية، وصولاً إلى تشكيل جديد للسلطة في لبنان.

إعلام فاسد لمكافحة الفساد!

تحتلّ المظاهرات الكبيرة موقعًا بنيويًا في تأسيس الحراك. فالجموع على تنوّع طبقاتها الاجتماعية، وتفاوت مستوياتها الثقافية والعلمية، واختلاف انتماءاتها الحزبية والطائفية (كما في لبنان)، من شأنها أن تخفي الأهداف الحقيقية للحراك. ففي حين يركّز الإعلام المحلي والعربي والدولي على الحالات الإنسانية للشرائح المشاركة، وإبراز المواقف، وتظهير المطالب (وهي مطالب محقّة وحقيقية بطبيعة الحال)، إلا أن التسلسل الإنسيابي لهدف هذا الحراك يكون قد بدأ بأخذ موقعه في سياق الخطة الموضوعة، باستهداف تماسك المجتمع وركائز الاقتصاد ومقوّمات السلم الأهلي، وصولاً إلى استفزاز القوى الأمنية ودفعها إلى الاصطدام بجموع المتظاهرين، وحينها يكتسب الحراك مستوى أعلى من الشرعية والموثوقية.

ولا تكفي المظاهرات وحدها لإسقاط أي نظام، بل تنحصر مهمتها في توفير مظلة شعبية لما يجري التخطيط له، فيكفي مشاركة ما نسبته 10 بالمئة من الشعب حتى يتولّى الإعلام دوره في التضخيم والتحوير والإشهار، ليحوّل مفاصل الحراك إلى منابر متعددة ومنتشرة وصولاً إلى تشكيل حالة ضغط على الأنطمة والحكومات، ودفعها إلى الرضوخ للمطالب أو في غالب الأحيان إلى الاصطدام والسقوط بفعل الدعم الخارجي.

لا شك في أحقيّة المطالب التي ترفعها حركة المحتجين، ولكن سرعة تدحرج كرتها لتتحوّل إلى حركة "أوتبورية" تتجاوز الملفات المعيشية لتصل إلى إثارة قضايا بنيوية أساسية تتناغم بشكل تام مع أهداف ومواقف خارجية، يرسم علامات استفهام كبيرة حول حقيقة هذه الأهداف التي تتخذ من الخبز والعيش والتعليم وتأمين مقوّمات الحياة عناوين مطلبية عريضة، فضلاً عن مكافحة الفساد كشعار عريض ينضوي تحته العديد من العناوين الصغيرة التفصيلية، على الرغم من أن القيّمين على هذه الحركة – غير المعلنين رسمياً حتى الآن – يعرفون تمام المعرفة استحالة تحقيق هذه المطالب وفق الآليات الدستورية والقانونية المعتمدة والمهل الزمنية اللازمة.

وهنا يمكن رصد دور وسائل الإعلام في تزخيم هذا الحراك، وهي وسائل يملكها أشخاص لم ينفصلوا يومًا عن معادلة التقلّبات في الأداء نتيجة تنوّع جهات ومصادر التمويل، فضلًا عن تورّط بعضهم في ملفات فساد لها علاقة بالتخابر غير الشرعي وقرصنة الانترنت من دول مختلفة محيطة بلبنان وتوزيعها على مشتركين (أفرادًا ومؤسسات) عبر شبكة غير شرعية مكونة من محطات بث لاسلكية عدة، مما حرم الدولة اللبنانية مداخيل بمئات الملايين من الدولارات على مدى سنوات عديدة، وهي سرقة موصوفة من خزينة الدولة وجريمة أكبر من جريمة سرقة المال العام، فكيف للإعلام المبني على المال الفاسد أن يروّج لمكافحة الفساد؟!

لعبة الأعداد والشعارات

تعمّدت محطات تلفزة الإعلام المموّل تقسيم شاشاتها إلى مجموعة نوافذ وصلت إلى 8 نوافذ تنقل رسائل مراسليها من المناطق المختلفة، مع تركيز الصورة على الزوايا التي تظهر فيها كثرة الأعداد، ولا نغفل أيضًا أهمية تظهير حضور الأكاديميين والإعلاميين من صنّاع الرأي والفنانين من ممثلين ونجوم الكوميديا في إعطاء الزخم الإعلامي لهذا الحراك، مع أن هؤلاء يستغلّون هذه التجمّعات لتكريس حضورهم والسعي إلى حجز أدوار لهم في أي تركيبة سياسية مقبلة في حال نجاح هذا الحراك في تحقيق انقلاب للنظام في لبنان. ويمكن اعتبار هذا الحضور عنصرًا في لعبة الأعداد المعتادة، حيث دأب الإعلام المرتزق على تضخيم الأعداد بشكل تدريجي حتى وصل إلى ادّعاء وجود مليوني مشارك في الحراك! في حين أكّد مدير عام شركة "ستاتيستكس ليبانون" ربيع الهبر في حديث تلفزيوني أنّ عدد المتظاهرين في كل المناطق اللبنانية تراوح في وقت الذروة بين ال 250 ألف و300 الف متظاهر فقط، فيما لم يزد عدد المتظاهرين في 14 آذار 2005 عن 250 ألف متظاهر.

شهد لبنان الكثير من التحركات الشعبية في تاريخه، ولكنه كان دومًا يحافظ على تماسكه، إلا أن الملفت أن بعض وسائل الإعلام قد حوّلت مراسليها في الشارع إلى قادة رأي فلم يعودوا يكتفون بنقل المجريات، بل ساهموا بشكل صريح في توجيه المحتجين على مستوى المواقف والتصريحات واستخدام الشعارات. فبدأت تبرز كلمات وتعابير تم استخدامها في "ثورات" ما يسمّى بـ" الربيع العربي" مثل: الحرية، الثورة، الانتفاضة، إسقاط النظام، سلمية سلمية، وغيرها من المصطلحات المستنسخة عن حراكات "الربيع العربي"، كما ركّزت هذه المحطات على أشخاص محدّدين للحديث باسم الشارع - كما حصل في العام 2005 - وخصّصت لهم أوقاتًا مريحة على الشاشة، وأفردت لهم مقابلات واستضافات في البرامج السياسية، وغالبًا ما يكون هؤلاء مرتبطين بجمعيات متخصصة ببناء القيادات الشبابية، وهم مكلفون بأدوار محدّدة في هذا السياق وتقوم وسائل الإعلام بإبرازهم لدعم تنفيذ هذه الأدوار.

من الواضح أن محطات التلفزة التي تتولّى تظهير أهداف ما وراء الحراك الشعبي قد وزّعت الأدوار في ما بينها على مستوى تغطية الحراك جغرافيًا وسياسيًا، مع استغلال ما يجري لتحقيق الأهداف الخاصة للمرجعيات المحلية التي تقف وراءها وتدعمها، وهي مرجعيات معروفة وأهدافها معلنة، وهي لم تأخذ بعين الاعتبار التداعيات التي قد تترتّب على تخريب البلد اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، بل سخّرت شاشاتها على مدى أكثر من 18 ساعة في اليوم لنقل المجريات الميدانية، ونشرت مراسليها في المناطق المختلفة وأوقفت برامجها بما يعني وقف بث الإعلانات - وهي مصدر رئيسي للعائدات المالية - في عملية نقل مباشر مستمر من أكثر من منطقة في الوقت نفسه، ما يعني تكاليف مالية باهظة جداً لا تتحمّلها موازنات هذه الوسائل في الأيام العادية، فكيف استطاعت تغطية هذه النفقات!؟

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف