الخليج والعالم
منهج التفسير عند الإمام الخميني (قده)
أولى الإمام الخميني (قده) القرآن الكريم الكثير من اهتمامه ودأب بما عُرف عنه من صرامة علمية على تفسيره، وقد كان له رؤيته الخاصة في التفسير، هنا مقدمة للشيخ مصطفى قصير (رضوان الله عليه) يسلط الضوء فيها على رؤية الإمام الخميني في تفسير القرآن الكريم.
لا يقاس ارتباط الانسان بالقرآن بكثرة تلاوته، وإن كانت التلاوة أول الطريق نحو الارتباط، ولا بحسن الصوت وإن كان تحسين الصوت به مستحباً، ولا بمقدار معرفته بالعلوم الشكلية والظاهرية للقرآن، وإنما يقاس ذلك بمقدار الحرص على العمل به وتجسيد مفاهيمه والثبات على نهجه وخطه.
وبناءً على هذا المقياس يمكن أن يقال ان الإمام (قده) كان المجسد الأكبر لمعارف القرآن الكريم والمحيي لنهجه في هذا القرن، وانعكاس ذلك على فكره وسلوكه أصالة ودقة واستقامة وثباتاً غني عن التعريف.
فليست قراءة القرآن والتدبر في معانيه واستكشاف معارفه وعلومه وأحكامه - كل ذلك - ليس إلا مقدمة وطريقاً نحو الاهتداء بهديه والعمل بأحكامه وبلوغ غاياته. ولذا نجد أن الإمام (قده) يرى أن الأمة هجرت القرآن الكريم مدة مديدة، وأكسبها ذلك الهجران ذلاً واستعباداً.. ومراده من الهجران ترك العمل بأبعاده المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغير ذلك.
وعندما يكون الانسان قرآنياً في ثقافته وسلوكه ونهجه، ينعكس ذلك بشكل واضح على كل ما يصدر عنه وما يظهر عليه من صفات، ينعكس على أسلوب تفكيره وفي نمط سياسته وموازين علاقاته وارتباطاته، وفي طريقة حياته وسلوكه.
والإمام كان يتحدث عن القرآن الكريم على أنه كتاب السلوك الى الله وكتاب تهذيب النفوس وكتاب الآداب والسنن الالهية، وأعظم وسيلة للارتباط بين الخالق والمخلوق، والعروة الوثقى والحبل المتين للتمسك بالعز الروبي.
يتحدث عنه دائماً مشيراً الى معارفه وآدابه وأحكامه، ليصار الى الاستفادة من كنوزه وفيوضاته. ولعل أدق عباراته المصرحة بهذه الحقيقة قوله:
"ان الغاية التي تنزّل من أجلها القرآن هي صنع الانسان وجعله "إنساناً"..
مناهج التفسير:
يلاحظ المفسّر عادة القرآن من خلال ذهنيته الخاصة ومجال اهتمامه، وعلى أساس الجانب العلمي والفني الذي يبرع فيه، فيصب اهتمامه على الجهة التي يدركها والتي تتناسب مع امكاناته وعلومه الخاصة، وهذا أمر طبيعي.
فاللغوي يهتم بالألفاظ الغريبة، والنحوي ينصب اهتمامه على الإعراب والوجوه الاعرابية، والأديب جل اهتمامه بالبحث عن الكنايات والاستعارات والمجازات الواردة في القرآن الكريم، والفيلسوف يستغرق بالبحث عن الوجوه العقلية والمسائل الفلسفية عندما يجد مناسبة تمر من خلال آية أو عبارة، والأخباري لا همّ له الا جمع الأخبار المرتبطة بالقرآن، ومن له ولع بالعلوم الدينية والفلك يقف طويلاً عند الآيات التي تتضمن اشارات علمية ليطبق الآيات على ما عنده أو العكس.
ولأجل ذلك امتازت التفاسير بعضها عن بعض في جوانب اهتماماتها، وقد لا يكون لكثير ما يوردون ارتباط بالتفسير وبفهم المعنى المقصود في الآية، فالسحر الوارد ذكره في قصة موسى عليه السلام وفرعون يدخل في سياق القصة التي ذكرت عدة مرات لهدف واضح هو بيان حالة الاستكبار والجحود عند فرعون، وأن ذلك لم يعجز الله عز وجل، حيث نصر عبده وأورثه الأرض وأهلك فرعون وهامان وجنودهما.
لكن من له رغبة خاصة بالبحث عن الأمور العرضية يحبّر العشرات من الصفحات لبيان أنواع السحر وفنون وكيفية إبطاله، مع أن هذا لا ارتباط له بالمقصود الأصلي للكتاب.
وهكذا نجد من المفسرين من يهتم اهتماماً بالغاً بإيراد الأبحاث المطولة عن أنواع الطيور والحشرات وأمثال ذلك بمناسبة ذكر الهدهد والنملة والنحل وغيرها.
فالتفاسير الموجودة بين أيدينا بعضها - كما قيل - فيها كل شيء ما عدا التفسير.
القرآن الكريم كتاب مفتوح ليستفيد منه جميع أفراد البشر العامي والعالم والفيلسوف والعارف والفقيه في آن واحد، كل فرد يستفيد بحسب قابليته وبحسب ما أوتي من ادراك، فهناك العديد من الآيات في متناول الجميع، وفي الوقت نفسه هناك مسائل تختص بالعلماء الكبار.
علم التفسير في رؤية الإمام الخميني (قده)
التفسير في رأي الإمام (قده) يجب أن يكون في خدمة الهدف الذي نزل القرآن من أجله، وهو الذي يفتح الطريق نحو الاستفادة من هذا الكتاب الشريف، ويُشرّع أبواب المعارف والعلوم التي حواها.
ولقد اعتبر (رضوان الله عليه) ان الاهتمام الزائد بالجوانب العرضية يُخرج الانسان عن الهدف، بل يوجب الاحتجاب عن القرآن والاغفال عن الذكر الإلهي.
والسر في ذلك أنه ينظر الى واقع القرآن وحقيقته، ويعتبر أن الألفاظ التي صيغ بها ما هي الا قوالب للمعنى وأوعية له، وليس من شأن العالم أن يكثر الاهتمام بالوعاء الا بالمقدار الذي يوصله الى ما في الوعاء الذي هو المقصود الأصلي.
يقول (قده): "القرآن ليس ألفاظاً، ليس من مقولة السمع والبصر، ولا من مقولة الألفاظ والأعراض، ولكن أنزل الى الدرجة التي نستطيع نحن الصم العمي ان ننتفع به أيضاً، أما حال أولئك الذين ينتفعون منه بتلك الصورة العليا فهي حال أخرى، ووضعهم التربوي وضع آخر، وكيفية تلقيهم من القرآن هي على نحو آخر".
طبعاً يقصد هنا أهل البيت عليهم السلام ومن هو في المراتب العليا التي تقربه منهم.
وعليه فالاهتمام بدراسة القشر والوعاء الى حد يفوت معه المقصود يحجب الانسان عن الغاية والغرض. الاستغراق في بيان الوجوه الإعرابية مثلاً والنكات البلاغية ونقل الأقوال فيها وغير ذلك من الوجوه الأدبية، أو النظر الى القصص القرآنية بنظرة تاريخية محضة والاستغراق في تعداد الاقوال في أسباب النزول واختلاف القراءات وأمثال ذلك.. يعده الإمام (قده) تضييعاً للجهد في أمور عرضية من شأنها ان تفوّت على الانسان المقصود الأصلي.
ولا يعني ذلك أبداً الإعراض عن هذه الأمور بشكل كلي، وإنما يؤخذ منها ما له ثمرة وما له مدخلية في فهم الكتاب، فإن الألفاظ وإن كانت قوالب للمعنى ووسائل لإيصاله الينا، الا أن بعض ما يرتبط باللفظ من علوم قد تساعد على فتح الباب للوصول الى المعنى، بشرط أن لا يؤدي البحث فيها الى الاغفال عن اللب وعن الذكر الإلهي.
يتحدث الإمام (قده) عن هؤلاء المفسرين فيقول:
"ان المفسرين العظماء قد صرفوا همهم الأكبر في واحدة من هذه الأمور (العرضية) أو أكثر، ولم يفتحوا باب التعاليم القرآنية للناس".
وعليه فالميزان الصحيح للتفسير عنده (قده) الذي يمكن من خلاله تقويم ما كُتب من تفاسير، هو أن يحقق الغرض والغاية والهدف الذي من أجله نزل القرآن، ويساعد عوام الناس على الوصول اليه والاستفادة من كنوزه الخفية.
يقول رضوان الله عليه في هذا المجال.
"وحسب ما أعتقد فإنه حتى الآن لم يُكتب تفسير لكتاب الله..."
"وبشكل عام فإن المقصود من التفسير هو شرح هذا الكتاب، والأمر المهم بيان مراد صاحب الكتاب.. ان هذا الكتاب الشريف هو بشهادة الله عز وجل كتاب هداية وتعليم، ونور درب السلوك الانساني، فعلى المفسر ان يُفهم المتعلم في كل قصة من قصصه بل في كل آية من آياته جهة الاهتداء بعالم الغيب، والارشاد الى طريق السعادة وسلوك طريق المعرفة.. فإن المفسر عندما يبيّن لنا مقصد النزول يكون مفسراً، لا عندما يتحدث عن سبب النزول (كما هو في التفاسير). ففي قصة آدم وحواء وقضاياهما مع إبليس منذ أول خلقتهما حتى نزولهما الى الارض، هذه القصة التي كررها الله عز وجل في كتابه، كم من المعارف والمواعظ مذكورة فيها؟ وكم تدلنا على معايب النفس والوساوس الشيطانية والسجايا التي تحملها ونحن غافلون عنها؟"..
ثم يقول: "وإجمالاً فإن كتاب الله كتاب معرفة وأخلاق ودعوة الى السعادة والكمال، وكتاب التفسير يجب ان يكون كتاباً عرفانياً أخلاقياً مبيّناً للوجوه العرفانية الاخلاقية وسائر وجوه الدعوة الى السعادة.. فالمفسر الذي يغفل هذا الوجه أو يصرف النظر عنه أو لا يهتم به فإنه يغفل عن مقصود القرآن والهدف الأصلي من إنزال الكتب وإرسال الرسل، وهذا خطأ قد حرم هذه الأمة قروناً طويلة من الاستفادة من القرآن الكريم، وأغلق باب الهداية في وجه الناس".
يشبه الإمام (قده) عمل المفسّر بأنه كشف للأغطية، لأن المعارف القرآنية التي يريد أن يوصلها إلينا اللفظ مغطاة محجوبة، يقوم المفسر بكشف هذه الأغطية كل وفق تخصصه، بل حتى في حدود التخصص قد لا يوفق المفسر في مقصوده فيبقى الغطاء.. ويقول:
"القرآن ليس ذلك الكتاب الذي نستطيع نحن أو غيرنا تصنيف تفسير جامع له يحوي كل علومه كما هي، ففيه علوم فوق ما نفهم نحن، نحن نفهم ظاهراً منه ونفسر غطاءً منه، والباقي يحتاج الى تفسير أهل العصمة، وهم المعلمون بتعليم رسول الله (ص).