الخليج والعالم
الإمام الخميني (قده) الفقيه المجدد
سماحة الشيخ محمد توفيق المقداد(*)
ما نراه اليوم من صحوة إسلامية عالمية، وما لهذه الصحوة المباركة من تأثيرات على مجتمعاتنا الإسلامية أولاً وعلى السياسة في العالم ثانياً، لهو نتاج جهد واجتهاد إنسان متميز، هو الإمام الخميني (قده)، الذي استطاع أن يوقف مسيرة الهبوط عند الأمة، وأن يقودها لينتشلها من الضياع واليأس والإحباط الذي كانت تعيشه.
ومن الأسباب المهمة التي أدت الى فرادة الإمام الخميني (قده) في كل ما قام به، هو "التجديد الفقهي" لديه، الذي خرج به عن المألوف المسيطر على مسيرة الفقه والفقهاء منذ بدايات عصر الغيبة الصغرى الى زمنه، حيث صار الفقه تقليدياً لا تجديد فيه، وإنما إعادة صياغة وتكرار لنتاج الفقهاء السابقين ذاته، خصوصاً مع ملاحظة أن فقهاءنا حذفوا العديد من أبواب الفقه ومجالاته التي كانوا يرون عدم ضرورة الاهتمام بها أو التصدي لها لعدم إمكانية تحقيقها في الخارج، كفقه الدولة وولاية الفقيه وأحكام الدفاع عن الإسلام والمسلمين والفقه السياسي بشكل عام، واقتصر التحديث على بعض الفتاوى المرتبطة بتطورات الحياة الاجتماعية وبعض المسائل المالية وأنواع من المعاملات لم تكن معروفة سابقاً.
هنا نرى ثورة الإمام الخميني على هذا الجمود الفقهي، فانتفض على هذا الواقع الذي يتحكم بمسيرة الفقه والفقهاء وطرح ما عنده من أفكار وآراء لتحديث الفقه وتصويب مسار الحوزات العلمية للاهتمام بما أهملوه قروناً طويلة.
ومن أهم ما طرحه الإمام على مستوى التجديد الفقهي هو التالي:
أولاً: إعادة إحياء الفقه السياسي، فإهمال هذا الجانب من الفقهاء أدى الى أن يصبح الشيعة في كل الأقطار التي يعيشون فيها حتى لو كانوا الغالبية من أبناء الشعب، على هامش الحياة السياسية من منطلقات إسلامية أصيلة، وصاروا يتمسكون بالفكر الوضعي المستورد من الغرب أو الشرق لكي يمارسوا المسائل السياسية، مع ما في ذلك من انحراف كبير عن طريق الإسلام. هنا جاء الإمام (قده) وطرح الفقه السياسي للإسلام وعلى رأس مسائله "ولاية الفقيه"، التي تعني أن المسلم في أموره السياسية لا يمكنه أن يسلك سبيلاً آخر للوصول الى ما يطمح إليه من نظام سياسي يحقق له أهدافه المشروعة.. وتفرّع عن مبدأ "ولاية الفقيه" أن المسلم لا بد من أن يطبق فقهه السياسي الإسلامي في حياته، لا أن يأخذ نظام العبادات من الإسلام ونظام السياسة والحكم والإدارة من غير الفكر الإسلامي، بل ينبغي عليه أن يلتزم بضوابط السياسة الإسلامية في الرفض أو التأييد للنظم الحاكمة في عالمنا، وأن يأخذ موقفاً واضحاً وصريحاً نابعاً من الثوابت الإسلامية تجاه الأعداء أو الأصدقاء على حد سواء.
ثانياً: فقه المجتمع.. كان الفقه بسبب غياب الدولة الإسلامية العادلة قد تحول بعد حذف العديد من أبوابه كما قلنا الى "فقه الفرد" فقط، حيث يحدد تكليف الأشخاص في مجال العبادات والتجارة والزواج والطلاق والميراث، لكن الفقه المرتبط بحركة المجتمع والذي غالباً ما يكون مرتبطاً بفقه الدولة كان مغيباً كلياً عن الساحة الفقهية وتبعاً العملية أيضاً. وهنا نرى أن الإمام (قده) بطروحاته الجديدة أعاد ما أهمله الفقهاء في هذا الجانب وجعله جزءاً لا يتجزأ من حركة الفقه والفقهاء وحركة الأمة المسترشدة بآرائهم وفتاواهم. ولذا نرى أن الإمام "قده" تعرض لفقه الدفاع وفقه قضايا الحرب والسلم وأدخل عنصري الزمان والمكان في عالم الفقه واستنباط الأحكام، واعتبر أن المجتهد الذي لا يمارس الفقه السياسي ليس مجتهداً مطلقاً، ولذا كان يرى أن المجتمع المسلم لا يمكن أن تستقيم حركته مع الإسلام إلا عبر الالتزام بفقه المجتمع المسلم، لا عبر غيره من النظم التي استوردناها وطبقناها في بلداننا الإسلامية، كأنظمة التعليم والتربية والأنظمة المالية والاقتصادية والتجارية وغيرها. وقدّم الإمام مصالح المجتمع العامة على مصالح الأفراد، بل حتى على مصالح بعض العناوين التي كان الفقهاء لا يجرؤون على المساس بها كالوقف مثلاً، لأن الإمام كان يرى أن مصالح المجتمع والأمة لها الأولوية حتى على الوقف لو كان مانعاً من الوصول الى المصلحة العامة، ولذا أمر بهدم بعض المساجد لأن وجودها كان في أمكنة تمنع من تحقيق مشروع ذي منفعة عامّة للمجتمع.
هذان هما العنوانان الكبيران اللذان يندرج تحت كل واحد منهما العديد من التفاصيل والمفردات التي ذكرنا بعضها لا كلها في طيّات الكلام عن كل من العنوانين.
(*) مدير مكتب الوكيل الشرعي للإمام الخامنئي في لبنان