الخليج والعالم
تصدع العلاقات بين الاتحاد الاوروبي ودول اوروبا الشرقية
صوفيا ـ جورج حداد
مهما كان الرأي في طبيعة النظام السياسي ـ الاجتماعي الذي كان سائدا في بلدان المنظومة السوفياتية السابقة، فإن انهيار تلك المنظومة وتفكك الاتحاد السوفياتي وعودة الرأسمالية المتوحشة الى تلك البلدان مثّـّل اكبر نكسة للحركة التحررية والتقدمية العالمية في التاريخ المعاصر. وقد انعكس ذلك بشكل سلبي جدا على منطقتنا العربية خاصة. حيث تنمّرت الامبريالية الاميركية بشكل لا سابق له وشنت الحروب المباشرة والهجينة على الشعوب والبلدان العربية بقصد تمزيقها وإعادة رسم خريطتها من جديد تحت الجزمة العسكرية الاميركية. كما تنمر الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني وفرض الحصار على غزة البطلة، وشنت الحرب الوحشية على لبنان في تموز/ يونيو 2006 ولكنها اصطدمت بمواجهة البطولية منقطعة النظير للمقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله وبدعم من الجيش اللبناني والشعب اللبناني باسره، وهو ما اسقط هدف "اسرائيل" في احتلال لبنان من جديد وكسر شوكة المقاومة الوطنية فيه.
وبنتيجة التضليل الاعلامي واسع النطاق الذي مورس على الجماهير الشعبية في اوروبا الشرقية، والذي شاركت فيه آلة البروباغندا الاميركية ـ اليهودية الهائلة، وانحراف اكثرية قيادات الاحزاب الشيوعية السابقة، فإن غالبية الجماهير الشعبية في بلدان اوروبا الشرقية وقفت لامبالية او مؤيدة لانضمام دولها الى الاتحاد الاوروبي الامبريالي وحلف الناتو العدواني. وقد أغدقت البروباغندا الوعود المعسولة على الجماهير بأن الانضمام الى الاتحاد الاوروبي والناتو سيحمل الى دول اوروبا الشرقية التقدم والازدهار والرخاء والامن. ولكن الواقع كان شيئا مختلفا تماما عن الاضاليل والآمال الوهمية للبروباغندا. والتجربة الواقعية حملت الى دول اوروبا الشرقية المنضوية الى الاتحاد الاوروبي خيبة امل تاريخية كبيرة. واخيرا بدأت شعوب اوروبا الشرقية تتململ، وانعكس ذلك في تبديل الاحزاب الحاكمة في كل انتخابات، كما بدأت الاوساط النافذة والحاكمة في تلك البلدان تفتح نوافذ وابواب خلفية، رسمية او غير رسمية، سرية او شبه سرية او حتى مكشوفة، للاتصال وتجديد العلاقات مع روسيا والصين، لا سيما على الصعيد الاقتصادي.
كما بدأت تطفو على سطح الإعلام انباء التصدع في العلاقات بين الاتحاد الاوروبي، وبين دول أوروبا الشرقية "الشيوعية!" السابقة، بصرف النظر عن طبيعة التصنيف السياسي للحكومات الحالية لتلك الدول. ومؤخرا فإن "المفوضية الاوروبية" (شبه حكومة الاتحاد الاوروبي) حذرت فرصوفيا (عاصمة بولونيا) مطالبة اياها بالتوقف عن التعامل مع الاتحاد الاوروبي بأنه مجرد "آلة لصنع النقود". وكانت 13 دولة من المنتسبين الجدد الى الاتحاد الاوروبي، في الـ15 سنة الماضية، قد عقدت مؤخرا اجتماعا مشتركا في فرصوفيا، للبحث في مستقبل العلاقات مع الاتحاد الاوروبي، تحت شعار "معا نحو اوروبا". ومن خلال المناقشات ظهرت في هذا الاجتماع التصدعات العميقة في واجهة الاتحاد الاوروبي. وقد القى رئيس الوزراء البولوني ماتيوش مورافيتسكي كلمة تركت تأثيرا قويا، اذ قال ان الدول الشيوعية السابقة المنضمة حديثا الى الاتحاد الاوروبي تطالب الاتحاد باستعادة الكثير من صلاحيات حكوماتها الوطنية ورؤسائها. وطالب بأن تُلقى جانبا فكرة "اوروبا بسرعات متفاوتة"، التي تسمح لبعض الدول دون اخرى بالاندماج في قطاعات معينة. وقال "ان الاتحاد الاوروبي ينبغي ان يترك للدول الاعضاء الصلاحيات الخاصة بها. ونحن نعلن ذلك بصوت موحد لدول اوروبا الوسطى". وكشف هذا القول الفجوة القائمة بين المفوضية الاوروبية والدول الاعضاء القدماء في الاتحاد وبين دول اوروبا الشرقية التي تؤكد انها تشعر بانها اعضاء من الدرجة الثانية في الاتحاد. وذكرت رويترز ان هذا الموقف ادرج في البيان الذي صدر عن الاجتماع وتقرر بحثه في الاجتماع الذي كان من المقرر ان تعقده المفوضية الاوروبية في 9 ايار/ مايو الجاري في مدينة سيبيو الرومانية. وقبل ذلك كان يوركي كاتاينين، نائب رئيس المفوضية الاوروبية، قد حذر بولونيا قائلا "ان الاتحاد الاوروبي ليس مجرد ماكينة لصنع النقود، او بقرة يمكنكم حلبها. ونحن ننتظر من بولونيا ان تقدم للاتحاد اسهامات اكبر من اجل مستقبل اوروبا". هذا وقد شرعت المفوضية الاوروبية في تطبيق اجراءات عقابية ضد بولونيا بسبب التعديلات التي ادخلتها بولونيا على نظامها القضائي، إذ من شأن تلك التعديلات ـ حسبما تقول المفوضية ـ ان تقوض الفصل بين السلطة الحاكمة وبين استقلالية القضاء وسيادة القانون. ولكن هذه الاجراءات لم يكن لها تأثير يذكر على نهج السلطة الحاكمة في فرصوفيا. وقد نشرت جريدة Politico البولونية مقالة لرئيس الوزراء البولوني مورافيتسكي بعنوان "الرؤية البولونية في اوروبا" اكد فيه ان الاتحاد الاوروبي يخاطر بإلحاق الضرر بالدمقراطية في سعيه الى تشديد الاندماج، وان ذلك يمثل نهجا "شديد الخطأ". وحسب رأيه فإن الاتحاد ينبغي ان يركز اهتمامه على توحيد السوق، ووقف الهجرة غير الشرعية، وتجنب ازدواجية المعايير المفروضة على السلع والخدمات في غرب اوروبا وفي شرقها.
وفي الوقت ذاته فإن فيكتور اوربان، رئيس الوزراء الهنغاري، دعا "الحزب الشعبي الاوروبي" (حزب اتحادي يضم احزاب الوسط واليمين في اوروبا، ويقابله "الحزب الاشتراكي الاوروبي" وهو حزب اتحادي يضم احزاب اليسار "المعتدل" في اوروبا) لان يعمل، بعد الانتخابات القادمة للبرلمان الاوروبي، كي يستميل اليه المجموعات الشعبوية والقومية. "ان الحزب الشعبي الاوروبي يقوم بالانتحار في توجهه نحو الارتباط باليسار. ينبغي ان نجد طريقا آخرا من خلال التعاون مع الجناح الاوروبي اليميني". هذا ما قاله اوربان في مقابلة اجراها مع صحيفة La Stampa الايطالية، في اشارة الى تحالف الاحزاب القومية والمعادية للهجرة، الذي يعمل لتشكيله ماتيو سالفيني، زعيم حزب "الرابطة" اليميني المتطرف والذي يشغل منصب نائب رئيس الوزراء الايطالي. وردا على ذلك قال انيغريت كرامب ـ كارينباور زعيم الاتحاد الدمقراطي المسيحي الالماني والوريث المحتمل لانجيلا ميركيل، انه اذا اختار اوربان وحزبه "فيديس" ان يبتعدا اكثر في مواقفهما عن مواقف "الحزب الشعبي الاوروبي" فإنه سيتم فصلهما من الحزب ولا رجعة عن ذلك.
هذه بعض الامثلة على طبيعة الحوار الساخن الذي يدور الان بين المفوضية الاوروبية وبين الدول الاوروبية "الشيوعية!" السابقة، المنضمة الى الاتحاد الاوروبي والتي اخذت تجتمع ككتلة متميزة بزعامة بولونيا. واذا كان ذلك يدل على شيء فهو يدل على انه قد انتهى شهر العسل الوهمي بين الاتحاد الاوروبي والناتو وبين دول اوروبا الشرقية "الشيوعية!" السابقة. وسقط تاريخيا خيار الاندماج مع اوروبا الغربية كبديل للنظام "الشيوعي!" السابق الموالي للسوفيات (روسيا). ودول اوروبا الشرقية توجد الان في "منطقة رمادية" بين مركزي استقطاب عالميين: روسيا والصين، من جهة، والاتحاد الاوروبي والناتو، من جهة ثانية. وقد بدأت انظمة الحكم في هذه "المنطقة الرمادية" تتخبط، يمينا ويسارا، بحثا عن منافذ للخروج من المأزق التاريخي الذي توجد فيه. ويتضح يوما بعد يوم ان الاندماج مع اوروبا الغربية لا يمثل اي حل لتلك الدول، بل هو مكوّن رئيسي من مكونات مشكلتها التاريخية الراهنة.