لبنان
عن انتصار أيار عام 2000: سفرٌ في ذاكرة الجنوبيين الأحرار
لم يكن يوم الخامس والعشرين من أيار عام 2000، يومًا عاديًا في حياة اللبنانيين عمومًا والجنوبيين خصوصًا، فهذا اليوم المجيد في حياة الأمة شكّل فاصلًا تاريخيًا بين ما قبله وما بعده.
مفهوم الحرية بالنسبة للجنوبي كان خارج قاموس حياته لسنوات، ظن العدوّ خلالها أن احتلاله لهذه الأرض سيبقى أبديًا، لكن عزيمة وإرادة الشعب الذي لا يقهر، كانت على الدوام أقوى من عربدته وأعرق من وجوده، إلى أن جاء اليوم الذي دُحر فيه مهزومًا مذلولًا، لتعود أنفاس الحرية لصدور الجنوبيين مجددًا.
قصص من ملاحم الصمود والتحرير، يرويها لموقع "العهد" ثلّة من الجنوبيين الذين عاشوا أيام الاحتلال وما بعده، وكانوا الشهود الأوائل على يوم التحرير الأكبر، قصص تروى بلسان القلب، وبنبرةٍ جنوبية فيها الكثيرمن الفخر والعز.
"الحمد لله تحرّرني"
يسترجع الحاج حسين هيثم، ابن مدينة الخيام، ذكريات عاشها خلال فترة ما قبل التحرير وما بعدها، ويصف لموقع العهد فترة الاحتلال قائلًا "كان الجنوبي يعيش حرفيًّا في سجن، إذ يمنع على أي أحد الدخول والخروج من المنطقة الحدودية إلا بعد حصوله على تصريح مسبق ممّا يسمّى "الإدارة المدنية" التي كانت تتبع لجيش العملاء، ليتمكّن من تخطّي المعابر، منها معبر كفر تبنيت، ومعبر كفر فالوس وغيرهما".
في هذا الإطار يتابع "الناس كانت في حالة خوف وقلق دائم والعائلات كانت ترسل أبناءها للإقامة في المناطق المحررة خوفًا من التجنيد الإجباري، أو الانزلاق وراء الإغراءات المقدمة من العدوّ للعمل في جهازه الاستخباراتي. وقد حُرم العديد من الشباب من الدراسة الجامعية بسبب القيود التي كانت مفروضة عليهم حينها. كان الناس يتردّدون في ممارسة الطقوس الدينية داخل المساجد خوفًا من اعتقالهم، والقنوات التلفزيونية المحلية كانت محصورة بقنوات محدّدة، وقيادة السيارات كانت تفرض وجود شخصين على الأقل في السيارة خوفًا من العمليات الاستشهادية".
وعن يوم التحرير يصف هيثم مشهد الناس "بسرب الطيور التي أطلق سراحها بعد أعوام من السجن، فرحة الناس لا توصف، ولا زلت أذكر صوت النسوة وهن يردّدن العبارة الشهيرة باللهجة الجنوبية "الحمد لله تحرّرني". والحدث البارز أيضًا يومها هو توجه أبناء البلدة إلى معتقل الخيام وتحرير الأسرى المعتقلين فيه، دون خوف، مردّدين صرخة الله أكبر".
وفقًا له، فإن "هذا اليوم مطبوع في ذاكرة الجنوبيين ولا يمكن أن ينسى، وكان له الأثر البارز على كلّ حركات المقاومة التي أثبتت أن الأوطان لا تحرر بالسياسة ولا بالقرارات الدولية بل بفضل دماء الشهداء، ويتم الحفاظ عليه عبر نقل أجواء التحرير للأجيال الأخرى، من خلال الاهتمام بذكرى التحرير وإحيائها بشكل سنوي وسرد تفاصيلها بدءًا من العائلة وصولًا للمجتمع ككل، والأهم من كلّ ذلك هو الحفاظ على المقاومة وصون دماء الشهداء".
من الخيام إلى بلدة تبنين الجنوبية، ولقاء آخر مع الأخت مريم صالح، التي روت لموقع "العهد" مشاهد يوم التحرير بالكثير من الفرحة والدموع: "لم أنس مشهد الناس وهم يركضون ويصرخون من شدة الفرحة. على تلال بنت جبيل كانت القوات الصهيونية لا زالت واقفة. لم يفزع الأهالي ولم يتراجعوا خطوة، رغم أنهم أطلقوا الرصاص نحونا، وأصيب أحد المواطنين حينها، لكن ذلك لم يخفنا أبدًا".
في هذا السياق أضافت صالح "توجهنا نحو مستشفى صلاح غندور، وحين شاهد جنود العدوّ مشهد الناس همّوا بالهرب منها، لكن رغم وجودهم لم نتوقف، كانت لدينا الثقة المطلقة بأننا سنسترد أرضنا، وأن هذا الاحتلال سيرحل لا محال، إلا أن المشهد الأكثر أهمية هو كيف سلم العملاء أنفسهم للأخوة الذين تعاملوا معهم بكلّ إنسانية وأخلاق عالية، وقدموا لهم الطعام والألبسة ولم يسمحوا لأحد بأن يهينهم بكلمة، وقاموا بعدها بتسليمهم للمعنيين".
وفي نهاية اللقاء، تختم صالح سردها: "في يوم التحرير حرصت على وجود ابنتي معي في كلّ المحطات والأماكن التي ذهبنا إليها. التقطت صورًا لها في العديد من المواقع التي اندحر العدوّ منها، وأردت من خلال ذلك أن يبقى هذا اليوم محفورًا في ذاكرتها لتعرف بفضل من نحن بقينا في أرضنا ولتعيد سرد الذكريات للأجيال اللاحقة".
عُرس الجنوبيين الأكبر
لم تغب أحداث التحرير وما قبله عن ذاكرة الحاج الثمانيني الأستاذ يوسف عيسى، ابن بلدة راميا الجنوبية ومدير مدرستها الرسمية في تلك الحقبة، وبنبرة لا تخلو من شعور الفخر، يحكي لموقع "العهد" عن تجربته تلك: "في الفترة التي سبقت التحرير، كانت الناس تعيش واقعًا قاسيًا جدًا، الزراعة هي مجال العمل الوحيد تقريبًا، وباقي المصالح كانت شبه معدومة، بيوت الناس تفتَّش بشكل يومي بإذلال، والشباب يؤخذون إلزاميًا للتجنيد الإجباري لدى العدو، مما دفعهم للهرب بعيدًا عن أهلهم، مما تسبب في تفريق الكثير من الأسر، فضلًا عن لجوء عدد من العملاء لفرض سلطتهم التعسفية على الناس عبر استغلال نفوذهم".
وعن يوم التحرير يصف عيسى المشهد: "الخامس والعشرون من أيار عام 2000 كان أكبر عرس لأهل الجنوب. عادت الأسر لتعيد لمّ شملها. كان الناس ينظرون إلى المشهد وكأنه أقرب للمعجزة، يتراكضون في الطرقات للوصول إلى من تبقى من جنود العدوّ لدحرهم، أرادوا مواجهتهم ولو باللحم الحي، انكسرت القيود وعاد السجناء لأهلهم. لقد شمل التحرير كلّ جوانب حياة الجنوبي، ليعود مجددًا إلى ربوع الوطن الذي تغرب عنه لسنوات رغم أنه لم يفارقه أبدًا".
بالنسبة لعيسى، فإن "هذا الإرث المبارك يجب أن يبقى خالدًا على امتداد الأجيال، ولا بد أن يتم ذلك من خلال إدراج قصّة تحرير جنوب لبنان في المناهج التربوية، والعمل على إحيائها بشكل سنوي وإعطائها حقّها من مراسم الإحياء، وتسليط الضوء إعلاميًا أكثر فأكثر على هذه المناسبة العظيمة، وإقامة ندوات ونشاطات من وحيها".
"يوم تاريخي"
أمام منزلها الكائن في قرية البياضة الجنوبية، تجلس الحاجة أم مروان عليان لتسرد لموقع "العهد" بعضًا من ذكرياتٍ عاشتها خلال فترة التحرير عام 2000، مستهلّةً حديثها بالقول: "لقد عشت فترة التحرير من أولها، حين بدء الاجتياح الصهيوني لبلادنا، أسر الصهاينة زوجي عبد الله عليان منذ عام 1981، وأخفوه منذ ذاك الحين، وتكفّلت بتربية أحد عشر ولدًا. عشنا ظروف القهر وظلم العدوّ وعملائه، وكنت أحرص على عدم تعرضهم لأبنائي خوفًا من إغرائهم وتجنيدهم، والحمد لله أن وفقني بذلك".
يوم التحرير وفقًا للحاجة أم مروان كان "يومًا تاريخيًا، لأن القرى الحدودية التي عاشت فترة الاحتلال هي الشاهدة الأولى على إجرامه وعدوانيته. فيما مضى كان يمنع على المزارع في القرية أن يعمل في أرضه، وعلى الصياد أن يبحر كيفما يشاء لطلب رزقه، أما بعد الخامس والعشرين من أيار فقد تغيّر كلّ شيء، وعادت الحرية لأرضنا ومياهنا. أفتخر أني وبعد كلّ هذا القهر والمعاناة تمكّنت من الحفاظ على عائلتي لتكون في خط الحق لا الباطل".
بالدعاء للمجاهدين وسيّدهم ختمت الحاجة أم مروان اللقاء، مؤكدةً أن نصر أيار لم ولن يمحى من ذاكرة الأجيال كلّها، وأنها لا زالت تروي لأحفادها هذه الذكريات عند كلّ مناسبة، "لأن حق الشهداء علينا أن نحفظ تضحياتهم ودماءهم وأن يعرفها الصغير والكبير منا".